ادريس هاني ||
· ويليه: سقوط الإخوان ونواح المرزوقي
لا أقف عند متغير الانتخابات في معادلة الانتقال الديمقراطي، إنّه موسم يُعاد فيه إنتاج العلائق القَبَلِيَّة بامتياز، وهو ما يجعلني مصرّا على مقاربة المشهد الانتخابي من وجهة نظر الأنثربولوجيا السياسية، كحقل حيوي يمنح مساحة أوسع لرصد الحقيقة السياسية وعلائقها الثقافية والاجتماعية. فالأنماط السياسية لها علاقة بالأنماط الثّقافية. إن موريس دوفيرجي الذي كان له حضور رمزي في دستور 1962 المغربي، هو نفسه يؤكّد على هذه الحقيقة، بل سيجعل من كل ثقافة قائمة بمثابة مزيج من ثلاث ثقافات تؤثّث المشهد السياسي: الثقافة الرعائية، وهي تستند إلى بنية تقليدية غير مركزية بشكل كامل، ووجب الأخذ بعين الاعتبار رأيه في كون الثقافة القديمة لا تندثر نهائيا، وهناك ثقافة الطّاعة التي ترتبط بالبنية السلطوية المركزية، بالإضافة إلى ثقافة المشاركة وهي الجنبة الموصولة بالبنية الديمقراطية.
ففي مجتمع مزيج، هكذا سماه بول باسكون في ستينيات القرن الماضي، في مقاربة مجتمع مركّب من القديم والحديث، وإن كانت أطروحة باسكون ليست حصرا على المجتمع المغربي، إلاّ أنّها بارزة، يصعب مقاربة العملية الانتخابية بعيدا عن تأثير البنيات السوسيولوجية، وأيضا التّحلل من الأيديولوجيا، زاد في تعقيد المشهد، وكأنّنا أمام وضعية تفرض اعتماد إطار تفسيري جديد، شديد التعقيد والتناقض، إطار محكوم بديناميات اجتماعية غير مؤطّرة، ولكنها تنطلق من تعاقدات مفترضة جديدة تنتمي إلى جيل ثورة التواصل الاجتماعي.
يؤكد على حقيقة ذلك التداخل كما قلنا بين مختلف مكونات المشهد الاجتماعي، حيث انعكس على دستور 1962 الذي ساهم فيه كبير فقهاء الدستورانيين الفرنسيين موريس دوفيرجي. فلقد ساهم هذا الأخير كمستشار فيما يتعلق بجوهر العلاقة الدستورانية بخصوصية النظام السياسي، وهو حتما ليس كاتب الدستور، لأنّه استشير في قضية لها علاقة بصميم نظريته في النظام شبه الرئاسي، حيث استشاره يومئذ الملك الراحل الحسن الثاني حول شكل النظام الانتخابي بالنسبة لنظام كالمغرب كان يواجه شكلا من الإلتباس، كونه نظام تعددي في ظل مشهد حزبي يهيمن عليه أنذاك حزب الاستقلال، الذي كان شبيها بحزب الوفد المصري يومها. غير أنّ دستور 1962 هو نفسه يعكس هذا المزيج، حيث ساهم فيه جيل السلفية الوطنية، مثل المختار السوسي صاحب المعسول، وعبد الله كنون صاحب النبوغ المغربي وآخرون. كما أسند يومها رئاسة لجنة قراءة الدساتير إلى الفقيه المنوني صاحب مظاهر يقظة المغرب الحديث، وفي ذلك السياق حصلت زيارة لأبي الأعلى المودودي إلى المغرب. من دوفيرجي إلى المودودي، نكون أمام هذا المزيج الذي تكرس منذ الحماية مع سياسة الجنرال اليوطي، الذي كان مدركا لأهمية هذا المزيج باعتباره الطريق الوحيد لإرساء الاستقرار، وأيضا قبل أن يعهد لتيراس بأرشفة التاريخ الفني للمغرب، كان مدركا بأنّ المغرب دولة قديمة ممتدة، وأنّ إقامته في المغرب تتطلب الأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة، حقيقة أنها دولة قائمة منذ 1200 سنة.
المهم لدى دوفيرجي، هو لفت الانتباه إلى مفارقة الفصل بين السلطات، وهي سمة للنظام الديمقراطي الغربي، لكن المفارقة تكمن في تجاهل العلاقة القانونية بين البرلمان والحكومة، فالأغلبية البرلمانية هي نفسها الأغلبية الحكومية، فكيف يمكن الحديث عن فصل بين البرلمان والحكومة، بينما الأغلبية البرلمانية هي التي تدير الحكومة. فالفصل إذن ليس بين السلطة التشريعية والتنفيذية، بل هو في الحقيقة وفي نهاية المطاف فصل بين الأغلبية والأقلية.
لا يمكن قراءة الانتخابات المغربية قياسا إلى التجارب الأخرى، دون استحضار هذه التفاصيل التي تعيدنا إلى اللحظة التأسيسية، إلى الهواجس الأولى، إلى تنظيم المجتمع والمكان والتحوّلات الجوهرية والمجهرية لتاريخ مديد من الممارسة الدّولتية وإدارة الشأن العام وكذا العلاقات الدّولية. ويتعين أيضا قراءة الدينامية الانتخابية في إطار التحولات التي تعرفها السياسة، حيث تعتبر العملية الانتخابية تعبيرا عن السيادة، ولكن ما هو مفهوم السيادة اليوم؟ وفي ضوء هذا الإشكال يتعين النظر إلى الانتخابات كدينامية في بيئة متداخلة محليا وإقليميا ودوليا بحيث هناك تأثير متبادل.
في كل عملية انتخابية نكون أمام هذا التكرار الذي يعكس جمود السياسة وجمود البنيات السوسيو-ثقافية التي لها الأثر الكبير على المزاج الانتخابي. فمع كل استحقاق نواجه شكلا من التصويت الانتخابي. والحقيقة أنّ التصويت العقابي ليس حالة غريبة أو استثنائية، بل إنّ التصويت لا يكون إلاّ عقابيا، وهو أمر يتكرر في كل التجارب الاستحقاقية بما في ذلك الغرب الديمقراطي.
حين نأخذ بعين الاعتبار حقائق الاجتماع السياسي، يتعين قراءة المشهد من منظور يصعب استيعابه من خارج التناقضات التي يفرضها الاجتماع السياسي وسياقه التاريخي، لا سيما وأنّ تقييم الأنظمة الانتخابية ونتائجها بمعزل عن المعطيات الدقيقة المذكورة، هذا فضلا عن أن يكون التحليل مجردا وينطلق من كليشهات سطحية أو نزعات آنارشية ما قبل مفهوم الدّولة -الأمة. ومثل هذا التقييم غالب على المقاربات العجولة التي تنقصها معرفة الأصول المقارنة بين النظم السياسية وخصائصها.
وعودا إلى بدء، فإنّ ما أفرزته الاستحقاقات في المغرب، لم يكن مفاجئا لأغلب المتابعين لصيرورة الأحداث السياسية. إنّ الانتخابات جرت في وضع مريح، وإن انتابتها بعض الحوادث غير المؤثرة في كرنفال انتخابي يتمازج فيه المغرب المركزي بالهامش، فالهامش يصبح هو المقرر الأكبر في المهرجان الانتخابي.
لقد سقط حزب كبير قاد الحكومة خلال عشرية كاملة، والسقوط كان مدوّيا ، أي من 125 مقعد إلى 13، حيث لم يبلغوا نصاب تشكيل فريق في البرلمان القادم. ومع أنّني من منتقدي هذا الحزب - العدالة والتنمية- طولا وعرضا ، منذ قيامه حين كتبت يومها: الفاشلون، وكذلك مقالة: سأرميكم بحذاء، غير أنني لا أجد نفسي في وضعية من يشمت في حزب وقع على مناخيره في آخر الاستحقاقات، لأن نقدي لم يكن كيديا، بل إنّني أشعر بالشّفقة. هذا بخلاف من كان يراهن على هذا الحزب وربما يتملّق ويستشكل على انتقادنا له.
إنّ سقوط العدالة والتنمية كان متوقّعا، لأنّهم استندوا في الاستحقاقات السابقة على عناصر متحوّلة، أي على التصويت العقابي والتمكين النابعة من شروط لعبة الأمم في تأثيرها غير المباشر على العملية الانتخابية، وأيضا استنادا على استغلال الرأسمال الرمزي لخطاب ديني افتقدته الأحزاب، ليس الدين هنا كمطلب عقدي للناخب، بل باعتباره ضامن أخلاقي، حيث لم يعد هناك من ضامن يلزم الأحزاب بتنفيذ برامجها التي تبدو واعدة في التمنّيات السياسية. ويبدو أن المجتمع لم يقع في العزوف السياسي، حيث فاقت المشاركة الخمسين بالمائة، ولعل هذا الإقدام على المشاركة في الانتخابات تحركه الرغبة في التصويت العقابي من جهة، وأيضا دور الأحزاب المنافسة في خلق دينامية في صفوف ناخبيها التقليديين.
سقوط حزب المصباح وفوز التجمع
لا شيء كان مفاجئا في الانتخابات الأخيرة المدمجة: مدمجة لأنها شملت البرلماني والمحلي والجهوي، في ظرفية حرجة محكومة بإجراءات كورونا، والدخول المدرسي الذي تمّ تأجيله. ليس الجديد في فوز حزب التجمع الوطني للأحرار في شخص زعيمه رجل الأعمال آخنوش، وقد كان يتولى حقائب مهمة في الحكومة السابقة، ولا حتى في السقوط المدوّي لحزب الإخوان الذي كنا نراه كذلك ساقطا ولا يمكن أن يتفوق على منافسيه في سياق مشحون بتحول مزاج الناخبين وحتمية التصويت العقابي على حزب باع له الوهم طيلة عشر سنوات، الجديد هو أنّ المشاركة كانت كبيرة تجاوزت الخمسين في المائة، وأنّ الناخب هذه المرة أتى بالليبراليين، وهو ما يعني أنّ فكرة الناخب هي فكرة إشكالية، لأنّ التصويت العقابي هو تقليد يكشف عن جمود لا عن وعي، لا سيما وأنّ هناك خشية من بلوغ ما تبقّى من مكاسب اجتماعية في نظام المقاصة.
آخنوش الذي هزم نظيره العثماني حتى في عقر داره في منطقة سوس، هو رجل أعمال كبير ومستثمر في قطاع الزراعة والبترول. هل سيكون لذلك تأثير في تفعيل المشروع التنموي المقرر لعام 2035 بتفاصيله الواعدة والمحاطة بتحديات مستقبلية؟
التساؤل اليوم بعد أن فاز أخنوش ، وتعين طبقا للدستور أن يختار فريقه في الحكمة المقبلة، ما هي خريطة التحالفات الجديدة؟ دور الأحزاب الصغيرة؟ التموضع المحتمل لحزب الأصالة والمعاصرة الذي جاء في المرتبة الثانية؟ ماهية الحكومة وهويتها السياسية؟ هل ستكون حكومة تنمية واستثمارات أم حكومة إجهاز على السياسة الاجتماعية؟ تساؤلات وانتظارات الربع الأخير بعد الاستحقاقات التي أطاحت بحزب العدالة والتنمية من 125 مقعد في البرلمان إلى 13. فكرة سقوط هذا الحزب كانت منتظرة، لا شيء مفاجئ، لقد أظهرت الانتخابات الجديدة حجمهم الحقيقي، وكان للقاسم الانتخابي كضامن للتعددية في القانون الانتخابي الجديد دور في كشف هذه الحقيقة. لقد استند حزب العدالة والتنمية سابقا إلى عناصر انقلبت ضده، أهمها: التصويت العقابي. ولقد استعمل الحزب المذكور المال على طريقته أيضا مستثمرا في الرأسمال الرمزي، حيث سرعان ما تحول إلى حزب داعم للرأسمالية المتوحشة في عملية تجاهل وتنكر للناخب نفسه ومعظمه من الطبقة الوسطى. إن فكرة أنهم الحزب الأقوى، هي واحدة من خرائف زماننا السياسي. الجديد أنّ الناخب هذه المرة ليس واثقا من الفائزين الجدد، لأنّه ينتظر وقائع وأفعال تعيد له الثقة في السياسة وجدوى الأحزاب.
الوجه الآخر للحقيقة
لم يكن حزب العدالة والتنمية يتمتّع بعمق اجتماعي إلاّ بفعل التمكين الذي فرضته شروط ما عرف بالربيع العربي، لقد كانوا الحزب الاحتياطي للقيام بمهمّة تجنيب المغرب صرعة التآمر الإخواني، في سياق تنفيذ مشروع غراهام فولر لمنح الإخوان فرصة الحكم والتدبير في البلاد العربية. كان حزب العدالة والتنمية هو البديل لتأثيث هذه المرحلة. يعود الفضل في ذلك إلى الدولة وليس إلى الجماعة. إنّ تلويح بنكيران يومها بأن الربيع العربي لا زال يتجول وقريب منّا، تلويحة فاقدة للمصداقية، لأنّه خرج من الحكومة وبقي الحزب. وها هو خنوش الذي رفضه يومها وتسبب في خروج السيد بنكيران من الحكومة، يعود منتصرا، وسيتحكم في عملية تشكيل الحكومة الجديدة. حين نسيّ الحزب كونه مسنودا بتمكين فرضته الشروط الدولية والاقليمية، وهذا ما أشرنا إلى كونه عنصرا جديدا في ماهية السيادة المعاصرة، فإنه سيصعب عليه هذا السقوط المدوّي بعد أن انتهت شروطه الوظيفية إقليميا ودوليا ناهيك عن أن بقاءه قد يتسبب في زعزعة الاستقرار. لم يقبل الحزب المذكور نتائج الانتخابات، مع أنّ قانون القاسم الانتخابي هو القانون المعمول به في أنظمة انتخابية سابقة ودوليا. إنّهم لا يتمتعون بالروح الرياضية، ويعتقدون أنّهم بالفعل متغلغلون في المجتمع المغربي، وهذا هو الوهم الكبير.
لا يستطيع حزب العدالة والتنمية أن يحتجّ على الدولة، لأنّه حظي بفرصة تاريخية ما كان ليحظى بها لولا تلك الظروف. فلقد تحول من حزب محدود إلى حزب أغلبي، ثم حصد الكثير من الامتيازات. وأمّا ما يتعلق بالناخب، فهو عنصر متحوّل في صيرورة النظام الانتخابي، إذ لا يمكن التنبّؤ بمزاجه في المستقبل. لكن علاقة الحزب بمزاج الشعب، اتسمت بالجمود، وساهم في ذلك الشعوب بالزهو والانتصار والطغيان. فالناخب هو الآخر له أساليبه وميوله وتقديره لمصالحه ومنسوبه من الانتهازية الشعبية التي يستند إليها التصويت العقابي. لقد تعاقد الحزب المذكور مع الجمهور على جملة الانتظارات والآمال، لكن التدمّر الشعبي من أداء الحزب، ما فتئ يتطوّر بشكل ملحوظ.
ويبدو المغرب مقبل على مشروع تنموي جديد، ولا مكان لحزب المصباح في هذا الرهان، كما لم يكن بعد كل هذا الذي حصل أي منافس يمكنه تحقيق الفوز الساحق على العدالة والتنمية إلاّ هذه الأحزاب، حيث استطاعت أن تمهّد لهذه الاستحقاقات، وحيث لا يمكن أن يهيمن حزب العدالة والتنمية على المشهد أكثر مما تطلبته الظروف السابقة. بغضّ النظر عن طبيعة المشروع التنموي الجديد، فإنّ أهميته تكمن في أنّه رسم خارطة طريق تفرض على الأحزاب أن تدخل بتعهدات ومنافسة حول رؤية مشتركة لمشروع تنموي، وليس ببرامج مستقلة من دون ضمانات.
اليوم حزب العدالة والتنمية لم يتمكن من الحفاظ حتى على الحد الأدنى الذي يمكنه من موقع مقبول في الترتيب الحزبي، بل إنه عاجز أن يدخل المرحلة الجديدة كمعارضة نافذة، نظرا لعجزه عن تشكيل فريق.
يطرح الكثيرون سؤالا يبدو منطقيا في الظاهر، لكن يبدو غير دقيق في نظري، فالمشكلة تتعلق بطريقة طرح السؤال. هم يقولون كيف سقط حزب فاز بأغلبية الأصوات بهذا الشكل المأساوي، لكنني أسأل منذ سنوات: كيف أصبح الحزب المذكور حزبا أغلبيا؟ في أي شروط وبأي ثمن تحققت النقلة المذكورة؟ والحقيقة أن ما حصل - وهو تحصيل حاصل - هو سقوط ظلّ مؤجّلا قبل أن تكتمل إرادة الناخب. لقد تسبب التصويت العقابي وتقنية القاسم الانتخابي في هذا السقوط، ولكن السبب ظلّ مركبا.
العامل الجيوبوليتيكي
إذا نظرنا من زاوية جيوبوليتيكية، فإنّ سقوط حزب ذي مرجعية -إخوانية- هو ظاهرة في السنوات الأخيرة، فشروط الربيع العربي التي جاءت بالجماعات المذكورة تنفيذا لمخطط دولي مشهود، لم تعد ممكنة. إنه سقوط الإخوان في أكثر من بلد وبكيفيات مختلفة-لعل سقوطهم في المغرب كان أقلّ ضوضاء وبأساليب اقتراعية دقيقة- لم يحصل ما من شأنه أن يحول بين حزب العدالة والتنمية والمضي على طريقته في الحملات الانتخابية، فثقة الجمهور بهذا الحزب تراجعت إلى الصفر، بل إن كان الناخب المغربي قد زاول التصويت العقابي من قبل، فهو اليوم يعبّر عن إحباط وثأر لا حدود له، لأنّه يشعر بخذلان حزب رفع من سقف الآمال الشعبية، قبل أن يجهز على السياسات الاجتماعية. لم يعد الناخب المغربي يخضع لخدعة التّظلّم الذي اعتمدته الحكومة السابقة كاستراتيجيا في خطابها، اعتمادا على مغالطة التظلم. إن ما ينتظر الحزب بعد السقوط المدوي هو جملة الملفات التي تحتوي على خروقات، وتفعيل إجراءات المحاسبة، لأنّ عشر سنوات من التدبير لم تكن خالية من خروقات هي ما كان له دور في هذا السقوط المدوّي.
وجب أخذ الانتخابات المغربية كمؤشر جيوسياسي أيضا، المغرب سباق ودقيق في استشراف التحولات الجديدة، فلقد كان سباقا في تمكين الحزب المذكور من بلوغ السلطة وهو اليوم سباق في الإطاحة بهم بقوة الاستحقاق لا بالمقاربة الأمنية. هذا يعني أنّ الحاضنة الدولية لخيارات الإخوان لم تعد موجودة، وبأنّ الإخوان من دون ذلك التمكين لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا، ولكن هناك انقسامات ستفرضها الانتهازية، مما يعني أن الإخوان سيجدون أنفسهم مجددا في الشارع، ولكن هذه المرة من دون مصداقية.
كانت الانتهازية هي المقوم الأساسي لنشأة الجماعة وحزبها، كما يعكس ذلك مسار النشأة والتطوّر. ولكن يبقى السؤال: كم يحتاج الحزب المذكور من الوقت لاستعادة مكانته في مجتمع لن يغفر لهم تلاعبه بصندوق المقاصة.
الملفت للنظر من الناحية الجيوبوليتيكية، هو أن الإطاحة بأحزاب (الإخوان)- أقصد الإخوان هنا ما تحدده المرجعية الأيديولوجية للحزب – كان دراماتيكيا اقتضى تدخلا من الجيوش وقوى الأمن وإعلان حالة الاستثناء، رأينا ذلك قبل سنوات في الجزائر حين كلّف الأمر عشرية من العنف، وكذلك ما كلف مصر من حوادث، والأمر نفسه في تونس الخ، لكن في المغرب، سقط حزب الإخوان سقوطا مدوّيا، لكن بأسلوب انتخابي دقيق، أي كما جاؤوا ذهبوا: سقطوا بضربة جزاء.
الواقع والمتوقع
في كتابي: سراق الله، أنهيته بجملة تؤكد بأنّ الوضع إن استمر هكذا فحتما سنكون أمام وضعية حرجة تمسّ الفهم الديني للجماعة كما تمس السياسة في هذه الربوع. وهذا ليس استشرافا فحسب، بل معرفة بالأصول الاجتماعية والثقافية لهذه النحلة التي عاشت هي الأخرى ضحية وهم كبير، وهم أنّها قوة نافذة في المجتمع. لقد أظهرت حصيلة الاستحقاقات المدمجة الأخيرة بأنّ هذا الوهم كان تعبيرا عن ذُهان سيكولوجي جماعي بالتّفوّق. استقالة قيادات من الأمانة العامة للحزب احتجاجا على نتائج الانتخابات، هي خبطة أقدام طفالية، لأنّ الأهم والمهم في تجديد الحياة الانتخابية المغربية أن تستمر الحياة التناوبية، كفى من الحديث عن الحزب المهيمن. لن يكون حزب العدالة والتنمية اليوم أهم من حزب الاستقلال والاتحاد الإشتراكي، ومع ذلك قبلوا بنتائج اللعبة الانتخابية.
السؤال الذي ينتظر القادم الجديد، هو ما مدى استعداده واقتداره على إنقاذ الملفات المنهارة في الحكومة السابقة؟ هل يملك أن يستعيد قليلا من الأمل السياسي للمجتمع؟ هل سيثبت بالفعل أنّه يملك خيارات وإمكانات وإرادة مختلفة؟ إنّ التحدّي اليوم يكمن هنا، في مدى قدرة الحكومة القادمة أن تصحح أخطاء الحكومة السابقة، حتى وإن كان الحزب الفائز شريكا فيها، هذا يتطلّب تحولا جذريا ومراجعة دقيقة، لكي لا تكون هناك حكومة تنطح حكومة، من دون تحقيق قيمة مضافة وأرقام عمل مقنعة، حتى لا يستمر مسلسل الإحباط، ومنح الحزب الخاسر فرصة إعادة إنتاج خطاب ما يطلبه الجمهور، أي بتعبير آخر: إسقاط حزب في الانتخابات ليس نهاية المطاف، بل ثمة تحدّي إسقاطه كمعارضة مفترضة ولو إلى حين.
إنّ انتظارات المجتمع أكبر مما تتحيه العملية الانتخابية، إنّ الأحزاب هي نفسها نتاج اجتماعي وثقافي للمجتمع بكل تناقضاته. إن انتهازية البورجوازية لا تستطيع أن تفرض شيئا دون أن تتكامل مع انتهازية البروليتارية الرثة. فالانتهازية حاضرة بقوة حتى أنّه ينذر أن يتعفف عنها مكون حزبي أو طيف اجتماعي، إنّنا أمام وضعية صارخة من إعادة الإنتاج، من هنا وجب عقلنة الانتظارات حفاظا على السواء والصحة النفسية لناخب لا يتنزّه عن استدخال العوامل الاجتماعية والإقتصادية في تدبير علاقته بصناديق الاقتراع والشّأن العام. مطلب الشفافية والتشاركية وكل المبادئ التي باتت حقيقة دستورانية وليس خطابا مفتوحا على المسامرات السياسوية.
سقطوا يعني سقطوا، لم المندبة؟
ومع ذلك هناك من يحاول تحمّل الضربة بافتعال مقاربات عقائدية وأيديولوجية في المبتدأ والخبر، وهي قراءات سادت في عُشرية الالتباس السياسي. ولن نجد أفضل من أبي يعرب المرزوقي، ليضعنا أمام قراءة مندبية متكلّفة لتفسير أسباب السقوط الذي عايش نظيرا له في مصر وأخيرا في تونس. أبو يعرب المرزوقي الذي يعيش خيبات أمل على الرغم من سنوات من التّوقع الذي لم يحصل منه سوى الوهم، فتح دكّة للعزاء.
في مقالة بعنوان: (انتخابات المغرب .. هل هزم الإسلاميون حقا؟) يسعى منظر الآخونجية العربية إلى اقتحام بيئة لن تطاوعه أدواته التحليلية لفهمها، فهو يبدأ حديثه "الأنوي": "زعيما الحزب الإسلامي الحاكم في المغرب صديقاي". عليك أن تتوقّع من وراء هذه العبارة، مغالطة السلطة. فهو يردف قائلا بأنّ المقابلة بين الزعيمين لتفسير النكسة الانتخابية هو من سطحية التحليل البدائي لما يجري في الإقليم. هذا يعني أن المرزوقي يفكر في ضوء لاهوت جيوسياسي إقليمي، يرى أنه مضطر لشرح الظاهرة. أبو يعرب المرزوقي تدلّى حديثا في لُقيات مجاملة مع ما أسماهم بالزعيمين، حتى سنوات قليلة اختبرت معرفته بالحالة الإسلامية في المغرب، فكان لا يميز فيها كوعه من بوعه، هل هذه اللُّقيا تكفي لتقييم الوضع؟
يعتبر المرزوقي أنّ الأمر من حيث الظاهر أن إطالة مدة الحكم بالنسبة لأي حزب في كل الديمقراطيات ينتهي إلى فقدان الأغلبية. وعلى الرغم من أن المرزوقي هنا يفسر الماء بالماء، إلاّ أنه فاته السؤال الجوهري: كيف أصبح الحزب المذكور أغلبيا؟ لكنه يخضعنا إلى مغالطة قياس أولوية مغشوش، أي إذا كان فقدان الأغلبية أمر طبيعي في الديمقراطيات الحقيقية، فإننا اليوم إزاء خداع كبير حين يتعلق الأمر بالديمقراطية في بلدان المغرب الثلاثة المركزية.
كان المغرب قبلة المرزوقي وموضوع تمدّح لما كانت الملّة الإخوانية تقود الحكومة، ما الذي تغيّر؟ لقد ساوى بين النظم الثلاثة: المخزن المغربي، والعسكر الجزائري، وما سماه المافيا التي ورثت نظام بن علي بتونس، وذلك لمنحهم الإخوان حكما صوريا بعد الفشل في الانتصار عليهم شعبيا. ومن هنا يقول المرزوقي بالحرف :" لذلك فإني -وهذه قد يعتبرها الكثير من قرائي من عاداتي التي تستفزهم-اعتبر أن ما فشل حقا في انتخابات الأمس هو المخزن وليس الإسلاميون". فهو يرى أيضا بأن المغرب كان يحكم بأفضل ما لدى الشعب المغربي من أبنائه. ومن هنا "من انهزم حقا ليس الإسلاميون بل المخزن في المغرب كما سبق أن انهزم الجيش في الجزائر في الانتخابات الأخيرة وكما انهزمت المافيات في تونس في الانتخابات الأخيرة". ويزيد منظر الإخوان في المنطقة، والداعي إلى الاستئناف بناء على النموذج العثماني الجديد، بأن هذه البلدان خاضعة للاستعمار وفاقدة للسيادة، كل هذا لأنّ حزب الإخوان سقط في الانتخابات، وهو يعد المنطقة بربيع كاسح سينتهي بما آل إليه الوضع في أفغانستان.
تهافت منظر الإخوان، في عنترياته تلك، لا تقوم على استقامة منطقية، إنّه حين يتحدث عن تركيا أوردوغان، فهو يتحدث عن نموذج استئناف حضاري وتحرري، ويتجاهل روابط الناتو ومستحقات الاستعمار. كل شيء حينما يكون إخوانيّا، سيُقرأ بالمقلوب، لكن المرزوقي الذي يتحدث عن المغرب بلهجة ثوروية وطواطية هو نفسه لما تمت استضافته من قبل المنظمة الطلابية التابعة لحزب التوحيد والإصلاح، الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية، قال في إحدى حوارته معهم، بالصوت والصورة(حوار خاص مع الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي - YouTube/13/12/2018):
"أنا أعتبر المغرب بلدي الثاني، أنا اعتقد أنّ المغرب له حصن حصين يحمي وحدته أوّلا، ويحافظ على عدم الاستفراد بالسلطة من قوة ليس لها شرعية تاريخية، في المغرب بخلاف تونس مثلا، هناك نظام مستقر له شرعية تاريخية، ولا ينافسه أحد على سلطته، المغرب الأقصى يستمد وحدته من شرعية تاريخية هي إمارة المؤمنين، إمارة المؤمنين بدأت إصلاحا دستوريا".
تحوّل فلكي في التقييم، تهافت واضح بين موقفين في منهة التناقض، لا يحتاج إلى تعليق. ومع ذلك يختم مقالته الحمقاء بأن الحمير لا يلتقطون الإشارة والعلامة، هكذا ينظر الإخوان للعالم على أنه حمير وهم وحدهم يركبون العلامات والفهم العميق بالأشياء.
إنّ معيار الديمقراطية لدى الإخوان، هو الاستفراد والهيمنة بوسائل الاقتراع، فإن حصل فنعمّ الحصيلة، وإلاّ، فإنّ السقوط الانتخابي سيكون مؤامرة كونية، حتى وإن كان بلوغهم الحكومات في عشرية الربيع العربي جاء بتمكين وبمؤامرة كونية. ليست هي المرة الأولى التي يقلب فيها المرزوقي المجن وينتهك كلّ أحكام القيمة السابقة واستغباء المتلقّي، فتلك عادته، حيث لا يَصْدُق أبدا، وهو في الوقت نفسه يعكس طبيعة تفكير من يدافع عنهم، تفكير محكوم بالازدواجية والتّهافت. لعله من الطبيعي أن لا نظفر بروح رياضية تحترم نتائج صناديق الاقتراع، لأنّها هي نفسها الصناديق التي أتت بهم و هي نفسها التي أخرجتهم من المشهد السياسي بلا حَبٍّ ولا تِبْن.
حكومة قادمة من دون: فهمتي أو لالا..
لم يعد الحديث عن الحزب المذكور ذو أهمية الآن بعد أن طويّت هذه القصّة كما كان منتظرا. ما حصل هو غياب التمكين ورفع اليد عن حزب، كان متوقعا إذا خاض الانتخابات من دون عناصر التمكين ، سيواجه حتفه، ولهذا استشعر التخلي عنه منذ تقرر القاسم الانتخابي، لأنّه عنصر كاشفا عن نسبة نفوذ وشعبية الحزب الحقيقية.
المهم في هذه التجربة الجديدة، أنها ليبرالية، تستطيع أن تحاسبها بالمنحنيات والأرقام، بالأيديولوجيا والطبقة والمسؤولية التاريخية، بعيدا عن خطاب التظلم، والتحلل من المسؤولية، والهروب في الوعظ والإرشاد والإلتباس ولاهوت القفشات. هذا بينما أرى بأنّ الحزب الذي سقط سيجد الطريق غير معبد لمزاولة مهام المعارضة، فالمعارضة ليست لعبة، بل تحتاج إلى مصداقية، نفذ رصيدها مند سنوات التفقير المقاصدي.
هي مخرجات صناديق الاقتراع، وما كان الحلّ تكريس سرمدية حزب أصبح عاجزا عن الإقناع بديمومته في الحكومة. الناخب لن يكون إلاّ هو. لا أشعر بالشماتة بقدر ما أتطلّع إلى ما يمكن أن تفعله أي حكومة بديلة، ثمة انتظارات، لا تحتاج إلى توضيح، يعرفها الجميع، يعرفها المعذبون في الأرض، وتعرفها الطبقة السياسية، انتظارات هي الأهم، فالناخب سينظر إلى أداء الحكومة المقبلة في ضوء أداء الحكومة السابقة، هناك تحدّي يفرضه الميل الغريزي للمقارنة.
:10/9/2021
https://telegram.me/buratha