لمناسبة ربع قرن على رحيله .. مقال منشور لي بـ "المشرق" قبل 5 سنوات
حمزة مصطفى||أعترف أن عنوان هذا المقال ينطوي على إثارة ربما تكون إيهامية بدلالة صحفية لإستدراج القارئ. أي أن مدلول المقال قد لايكون من وجهة نظر القارئ الحصيف المتخصص بمستوى دال عنوانه. لكن لا بأس من التعايش مع الدال والمدلول سواء على مستوى الشكل والمضمون أو الهامش والمتن. كلنا يعرف أن الراحل علي الوردي تخصص بالشخصية العراقية وله أراء فيها شكلت أحد أهم أبرز جوانب فرضياته بهذه الشخصية والتي سعى الى إثباتها من خلال سلسلة من الكتب أبرزها "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" بالإضافة الى كتبه الأخرى بمن فيها كتابه "لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث". بل حتى كتبه الأخرى مثل "وعاظ السلاطين" أو "مهزلة العقل البشري" أو"إسطورة الأدب الرفيع" أو "خوارق اللاشعور" تطرق فيها الى جوانب مختلفة من هذه الشخصية وتناقضاتها ربما بإستثناء كتابين له وهما "إبن خلدون" و"الأحلام بين العلم والعقيدة" والأخير يمثل من وجهة نظري نكسة في تاريخ الوردي لجهة منهجيته العلمية كأديمي متخصص بعلم الإجتماع والتي بنى بموجبها قناعاته. وحيث أن ما أثبته أو حاول الراحل الوردي إثباته من سلبيات وهي كثيرة فيما يتعلق بالشخصية العراقية أبرزها التناشز الإجتماعي وإزدواج الشخصية وصراع البداوة والحضارة والتي بنى عليها كامل تصوراته عن هذه الشخصية حتى أنها طغت على السمات الإيجابية التي يشار أن الشخصية العراقية تتمتع بها مثل الكرم والغيرة فقد تراجعت شخصية الوردي الى الخلف تماما بحيث بدا وكإنه ليس عراقيا وهو يمطرنا بشتى أنواع الملاحظات والثغرات بل وحتى الكوارث السلوكية والقيمية والأخلاقية. وطبقا لهذه القناعات فقد بدت حتى صفات إيجابية مثل الكرم والغيرة والشجاعة سمات بدوية متخلفة. إنه يريد القول إن الكرم أوالشجاعة أو حتى الغيرة إنما هي مسائل نسبية طبقا لعادات الشعوب وتقاليدها. العديد من أفكار الوردي وأحكامه بحق الشخصية العراقية جوبهت بالرفض من أوساط مختلفة دينية وأدبية ومجتمعية لكنها لم تجرده من جنسيته أو شخصيته العراقية مثلما حصل لمفكرين آخرين في العديد من البلدان العربية بمن فيهم العراق نفسه. قد يقول قائل إن الأحكام التي صدرت عن الوردي كانت قد صدرت في جو متسامح خلال العهد الملكي والدليل على ذلك عدم تمكنه من تأليف كتاب ذي أهمية كبيرة خلال العهود الجمهورية, ناهيك عن تراجعه الخطير عن العديد من أفكاره ورؤاه بعد ثورة 14 تموز عام 1958 والتي عبر عنها في كتابه "الأحلام بين العلم والعقيدة". والدليل على ليبرالية تلك الأيام التي أصدر فيها الوردي أحكامه القاطعة على شخصيتنا كعراقيين إن أحدا لم يجرؤ على إتهام الوردي بالطائفية أو العنصرية أوما الى ذلك من إتهامات تجعله متناقضا بين مايقول وبين حقيقته الشخصية. لكن تراجع الوردي خلف قناعاته الأكاديمية كانت وربما لاتزال من المسائل التي لم يتعرض لها أحد ربما لقناعة الجميع إنها ليست موجودة وأن الرجل فوق الميول والإتجاهات العنصرية والدينية والطائفية . لكن الى أي حد تبدو هذه الفرضية صحيحة؟ والأهم من ذلك ألم يحن الوقت أن نناقش الراحل الكبير علي الوردي من منطلق شخصيته كعراقي بعد أن "شرشحنا" كعراقيين؟ هل هو يعاني مثلنا من سلسلة ما شخصه من أمراض وسلوكيات إجتماعية مثل إزدواج الشخصية والتناشز والصراع بين البداوة والحضارة؟ هل هو مثلنا خارج البيت ببير كوري وداخل البيت ملا عليوي؟ وإذا كان "مريضا" مثلنا فهل من حقه لومنا وتقريعنا بمناسبة وبدونها حتى تحولنا لديه وفي العديد من كتبه وكأن "كل عيوب الشرع بينا"؟ ثم أين الدواء الذي وصفه لنا الوردي في أي من كتبه حتى نتخلص مما نحن فيه من أمراض وسلوكيات ماخلا اللوم والتقريع والسخرية ؟ لقد قرأت الوردي مرتين. في المرة الأولى إنبهرت تماما في كل ما صدر عنه من طروحات. وبالفعل مازلت أكن إعجابا وتقديرا عاليين لهذا الرجل الذي تجرد الى حد كبير جدا من أية خلفية عرقية أو مذهبية أو مناطقية أوفئوية؟ وفي المرة الثانية واصلت إعجابي بكثير من طروحاته وأرائه لكن تولدت لدي ملاحظات سأتطرق اليها في ثنايا السطور القادمة حتى وصلت الى كتابه "الأحلام بين العلم والعقيدة" الصادر بعد ثورة تموز 1958 الذي شكل صدمة بالنسبة لي. يقول الوردي في هذا الكتاب "ص 24 و25 مايلي: "ويخيل لي ان القارئ سيقرا كتابي هذا وعلى شفتيه ابتسامة اشفاق وازدراء لعله سيقول : انظرواالى هذا الكاتب الذي يتحدث عن الاحلام في الوقت الذي صعد فيه البشر الى القمر. نعم. اني لا انكر صحة مايقول هذا القارئ ولو كنت مكانه لقلت مثل الذي قال. فالذي لاشك فيه ان ثورة 14 تموز كانت ثورة جذرية كبرى هزت عقول الناس وقلبت مفاهيمهم. واعتقد ان عهد الثورة يحتاج الى كتاب وادباء من نوع جديد يختلف عن ذلك النوع من الادباء والكتاب الذي اعتاد الناس عليهم في عهد مضى. وربما ساءل يسالني اذا كان الامر كما تقول فلماذا لاتغير اسلوبك يا اخي فتجعله ملائما للعهد الجديد. الجواب على هذا القول بان ليس من السهل على الكاتب بوجه عام ان يغير اسلوبه بارادته, فالاسلوب جزء من الشخصية فهو اذن لايتغير الا اذا تغير تركيب الشخصية كله, وهذا امر عسير جدا لاسيما فيمن هومثلي قد اجتاز طور الشباب ودخل طور الكهولة منذ زمن غير قصير"؟ ويستمر االوردي بالقول "الواقع أني حاولت في بدء الثورة ان اكتب للصحف مقالات احلل فيها الثورة. وبعد ان نشرت تلك المقالات شعرت اني كنت فاشلا فلقد كانت مقالات تافهة وباردة في نظر الكثيرين وجوبهت باللوم والعتاب من اجلها غير مرة. ويعلم الله اني شعرت بالاسف الممض حين وجدت نفسي عاجزا عن مواكبة الثورة بقلمي كما كان المنتظرمني.". إني أتساءل الآن .. ماهي المعطيات التي جعلت الدكتور الوردي يتراجع عن كل ما صدر عنه من أحكام حتى قبول إزدراء الناس به وهوالذي بقي أكثر من عقدين ربما قبل الثورة يزدري بهم وبعقولهم؟ ثم ماهو المبرر الذي يجعله يعتبر ثورة 14 تموز التي لا يراها الكثيرون على إنها ثورة بقدر ما هي إنقلاب عسكري فتح سلسلة من الإنقلابات والمغامرات العسكرية التي أودت بالعراق من سئ الى أسوأ يعتبرها كبرى هزت عقول الناس وغيرت مفاهيمهم؟ هل يعد هذا إنتكاسة في فكر الوردي كعالم إجتماع نجح في تشخيص واقع مجتمعه أم أنه جامل مجرد مجاملة الثورة والجو العام الجماهيري والسياسي الذي أحاط بها والتي قد تكون هزت قناعاته الفكرية هو بالرغم من إنه لم يعرف عنه أي إنتماء يساري أو غير يساري؟. في ضوء ما تقدم هل يمكننا القول إن ما إنطبق علينا نحن العراقيين المساكين المصابين من وجهة نظر الدكتور بالشيزوفرينيا الإجتماعية إن صح التعبير ينطبق عليه هو أيضا خصوصا بعد أن إعترف بعظمة لسانه إن كل ما كل ما كتبه من مقالات بعد الثورة كانت تافهة؟ هذا سؤال أتركه للمتخصصين في علم الإجتماع لأني لا أملك عنه جوابا. يضاف الى ذلك أن مشكلة الدكتور الوردي في الغالب هي الأدلة التي يسوقها لإثبات فرضيته بحق الشخصية العراقية في الحاضر أو حين يتحدث عن قضية تراثية. ففي حين يريد إثبات فرضيته في جانب من جوانب الشخصية العراقية فإنه غالبا ما يلجأ الى أمثلة وقصص وحكايات قد لاتكون صحيحة بل وفي الغالب خيالية أو إسطورية. صحيح إنها تعبر عن واقع إجتماعي معين لكن من الصعب الركون اليها بوصفها أدلة إدانة قاطعة. الأمر نفسه ينطبق حين يتصدى لقضية تراثية بمن في ذلك الكثير مماورد في كتابه المثير للجدل "وعاظ السلاطين" ومنها حكاية عبد الله إبن سبأ أو غيرها من القصص والحكايات, فإنه كثيرا مايلجا الى أحاديث ومرويات ضعيفة أو مشكوك أو حتى مطعون فيها ويعدها دليلا على صحة قوله. يضاف الى ذلك أن نظرة الدكتور الوردي للشخصية العراقية ذكورية في الغالب. فلقد صب جام غضبه على شخصية الرجل العراقي ولم يتطرق الى المرأة الإ قليلا.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha