ليست دولة الإمارات، التي باتت الجاسوسية صفة ملازِمة لسفرائها في البلدان العربية والأجنبية، بعيدة من المخطط الأميركي - الخليجي المعمول عليه منذ زمن من أجل «تخريب العراق». الدولة المَقُودة من قِبَل شيخ من آل زايد، مُتوهِّم بقدرة فائقة على تبديل المعادلات وتغيير وجه الدول والمحاور، تؤدي دور الساعي في الفتنة، وتجتهد في ترجمة التوجّه الأميركي الحثيث نحو ضرب مشروع القوى المناهِضة للولايات المتحدة في بلاد الرافدين، ومن ثمّ تضييق رقعة «النفوذ الإيراني» هناك. هذه الجهود، التي تؤدي السعودية الدور الرئيس فيها، وفق ما أكّدته الوثيقة المنشورة أخيراً في «الأخبار» (السعودية ليكس: كيف نخرّب العراق)، لن يكون مفاجئاً أن أبو ظبي تتقمّص شخصية «العين الساهِرة» عليها، محاوِلةً متابعة أدقّ التفاصيل في ما يقوم به «الشقيق الأكبر» ضمن خطة إدارة دونالد ترامب للعراق. وهي مراقبة تجلّي نظرة ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، ورجالاته إلى السعوديين كـ«أغبياء جداً»، وفق ما وصفهم ذات مرّة السفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة، مع فارق هذه المرة متمثل في أن من يحكم السعودية هو محمد بن سلمان، الأمير الشاب الذي يرى في ابن زايد «النموذج الملهِم»، والمستعدّ للإصغاء إلى نصائحه، والمتماهي إلى أبعد الحدود مع إدارة ترامب في توجّهها العدائي في غير ملف. في الوثيقتَين الجديدتَين المُسرّبتَين من السفارة الإماراتية في بغداد، واللتين تكشف «الأخبار» فحواهما اليوم استكمالاً لما كانت قد نشرته ضمن «الإمارات ليكس»، يَظهر السفير الإماراتي في العراق حسن أحمد الشحّي، الذي لا يميّزه عن نظيره السعودي السابق ثامر السبهان سوى قدرٍ من اللباقة يغلّف به تقاريره، مُتقصِّياً الجهود السعودية لـ«سحب البساط من تحت أرجل الإيرانيين»، ومُسدِياً النصح في ما يتصل بكيفية تجاوز العقبات الحائلة دون ذلك. البارز في ما يسوقه الشحي من معلومات و«تحليل وتقييم» في هذا الإطار، تطرّقه إلى المحرّك الأميركي خلف المساعي الخليجية، الذي بات واضحاً أنه تفعّل إلى أقصى الحدود في لحظة تقاطع بين عزم إدارة ترامب على «تطويق النفوذ والتمدد الإيراني في العراق»، وبين محاولات الرياض وأبو ظبي إرجاع العراق إلى ما تُسمّيانه «محيطه السياسي العربي». اللافت، أيضاً، في الوثيقتين، أن السعودية والإمارات، ومن خلفهما الولايات المتحدة، قرّرتا مبكراً وضع ثقلهما خلف «المشروع المعتدل» المتمثّل برئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، و«غيره من القوى ذات الاتجاه العربي»، وفق ما يوصّفها الشحي، سعياً لإنجاحها في الانتخابات النيابية التي لم تكن قد أُجريت بعد، و«تحقيق نصر سياسي مهم في مواجهة النفوذ الإيراني الكبير».
بعد أقلّ من شهر على انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، أطلّ دونالد ترامب عبر «تويتر»، مُحذِّراً من أن «إيران تستحوذ بسرعة على المزيد والمزيد من العراق». كانت تلك واحدة من الإشارات المبكرة إلى أن الساكن الجديد في البيت الأبيض يضع نصب عينيه رؤية «عراق لا يدور في محور إيران»، كما يعبّر عن الهدف السفير الإماراتي في العراق حسن الشحي. منذ ذلك الحين، تضافرت المعطيات على تأكيد عزم أميركي على رسم صورة بلاد الرافدين ما بعد «داعش» وفق تطلّعات واشنطن ورغباتها. بدا واضحاً لجميع المراقبين أن الإدارة الأميركية ستكثّف مساعيها على المستويات كافة من أجل «إبعاد الحكومة العراقية عن أن تكون تابعاً لطموحات السياسة الإيرانية وأهدافها»، بحسب تعبير الشحي نفسه.
يلخّص الشحي، في برقية مؤرخة بـ25 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، تحمل عنوان «وزير الخارجية الأميركي يزور العراق»، الاستراتيجية الأميركية هذه بـ6 نقاط، في مقدّمها «تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق بالإبقاء على عدد من القوات الأميركية القتالية والخاصة بحماية الأراضي التي طُرد عناصر داعش منها»، و«إبقاء المراقبة الميدانية والجوية واستمرار الاستطلاعات الأمنية والاستخباراتية لإفشال المشروع الإيراني التوسعي في العراق ومنعه من إيجاد ممرات بديلة وطرق برية أخرى لإدامة الاتصال بين طهران ودمشق عبر بغداد، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، مروراً بالأراضي اللبنانية ضمن محور الهلال الشيعي». اللافت في النقطة السادسة والأخيرة، التي تنسجم مع الرؤية «الترامبية» لكيفية تحقيق أكبر قدر من الفوائد بأقل قدر من التكاليف، والتي تُرجمت عراقياً بالاستعانة بشركات خاصة ومقاوِلين خاصين لتحقيق هدف ترامب المتمثل في استعادة «3 تريليونات دولار أُهدرت هناك»، والإمساك بالحدود المشتركة بين سوريا والعراق والأردن، هي قول الشحي إن الولايات المتحدة تريد الحفاظ على مصالحها العليا في منطقة الشرق الأوسط «مع مراعاة عدم تكلفة الاقتصاد الأميركي أي تبعات ونفقات مالية، أي اعتماد مبدأ (تحقيق المصالح مع مراعاة الاقتصاد بالنفقات) مُستغِلّة نفوذها ودورها الدبلوماسي الكبير والتفوق العسكري الحاسم لمصلحة قواتها».
هذه الحقيقة التي لا يتردّد السفير الإماراتي في الاعتراف بها، تحيل مباشرة على دور الوكيلَين الخليجيَّين (السعودية والإمارات)، المتحمّسَين لتوجيه ضربة إلى «شبكات النفوذ التي تملكها طهران في العالم العربي»، في المخطّط الأميركي. هنا، يحضر الرابط بين الوثيقة الأولى التي تتناول زيارة غير معلنة لوزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، للعراق في الـ23 من تشرين الأول/ أكتوبر 2017، والوثيقة الثانية التي تتحدث عن زيارة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الثانية للسعودية في الـ22 من تشرين الأول 2017، التي تخلّلها اجتماع هو الأول من نوعه لـ«المجلس التنسيقي السعودي - العراقي» بحضور تيلرسون. في ذلك الاجتماع، عرض تيلرسون على العبادي والملك سلمان بن عبد العزيز - وفقاً للشحي - «مقترحاً لتشكيل فريق عمل يضمّ ممثلين عن الدول الثلاث (العراق، السعودية، أميركا)، يستهدف ترسيخ الاستقرار السياسي في المنطقة»، داعياً السعودية إلى «دعم العراق على الصعيدين السياسي والاقتصادي لتعزيز حظوظ المشروع المعتدل الذي يقوده رئيس الوزراء حيدر العبادي».
ترى الإمارات أنه على السعودية التنسيق مع أبو ظبي والقاهرة وعمّان من أجل النجاح في العراق
العرض الذي يقول الشحي إنه «يتعلق في جوهره باحتواء النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة»، يُظهر بوضوح أن «الحرب الناعمة» التي أطلقتها السعودية باتجاه العراق منذ بدايات عام 2017 إنما كانت بتشجيع وتوجيه أميركيَّين، من أجل الاستفادة من «الرز الخليجي» في اختراق القواعد الشعبية للقوى المناهضة للولايات المتحدة، وشراء ولاءات المكونات والشخصيات السياسية، بما يخدم هدف «تصحيح المسار»، بحسب ما يسمّيه الدبلوماسي الإماراتي. هدف تبيّن الوثيقة المذيّلة بتوقيع الشحي أن الرياض وأبو ظبي تجدان في رئيس الوزراء العراقي الطريق الأقصر لبلوغه، خصوصاً أن العبادي - بحسب الشحي - «يريد الاستثمار في الثقة السعودية كي لا يصبح تحت رحمة إيران في العراق، ومن ثم يقطع الطريق على تصاعد النفوذ الإيراني وبالتنسيق مع الولايات المتحدة أيضاً». من هنا، بدأ العمل على منح «أعلى درجات الدعم للعبادي وغيره من القوى ذات الاتجاه العربي للفوز في الانتخابات المقبلة».
يورد السفير الإماراتي، في هذا السياق، أن «السعودية تخطّط لدعم العبادي عبر حزمة من المشاريع والإجراءات الاقتصادية تُنفّذ في معظمها في مناطق الجنوب العراقي الفقيرة، ومن بين هذه المشاريع إمكانية تحويل بادية السماوة بين العراق والسعودية إلى منطقة استثمار في مجال الزراعة والثروات الحيوانية، اعتماداً على أموال سعودية وأيادٍ عاملة عراقية». انطلاقاً من ذلك، يبدأ الشحي تقييم الجهود السعودية، وتقديم توصيات إلى قيادته بشأن كيفية تثمير تلك الجهود، وتلافي «الأخطاء» التي ارتُكبت سابقاً. يرى الشحي أن المشاريع الاقتصادية «تمثل ورقة انتخابية ناجحة للعبادي خلال المنافسة المنتظرة بين الأحزاب السياسية الشيعية في انتخابات 2018»، ولذا فهو يشدّد، بلغة المُعلِّم، على «تنشيط الملف الاقتصادي»، لما ستكون له من «نتائج انتخابية مؤثرة، يمكن أن تمثل نصراً سياسياً مهماً في مواجهة النفوذ الإيراني الكبير في العراق».
وباللغة نفسها، التي تستبطن تأييداً لِمَا كان يوسف العتيبة قد وَصَف به السعوديين، وتجلية لثقة الإماراتيين المفرطة بأنهم أقدر من «أشقائهم» على أداء المهمة المطلوبة أميركياً، وبالتالي الأحقّ بتوجيه جهود التخريب في العراق، ينبّه الشحي إلى أن «المشاريع المشتركة (بين الرياض وبغداد) لن تكون أمراً سهلاً، خاصة أن الفنيين من الجهتين لديهم فجوات في الخبرة بسبب انقطاع العلاقات الثنائية منذ ما قبل 2003، فضلاً عن أن المشهد يعتمد على علاقات قبلية معقدة، كذلك فإن التيارات العراقية المتشددة نجحت في تلغيم المشهد العراقي بالحقد الطائفي». ومن هنا، يوصي السفير الإماراتي بأنه «سيكون على السعودية أن تعمل على إزاحة ما عَلِق بصورتها من اتهامات من قبل هذه التيارات»، في إشارة إلى الصورة السعودية المطبوعة في ذاكرة العراقيين والمرتبطة بالمفخّخات والتنظيمات الإرهابية.
أما الأهم، في سياق «الأستذة» الإماراتية، فهو اعتبار الشحي أنه سيكون على السعودية من أجل «تفويت الفرصة على أذناب إيران في العراق لتخريب هذا التقارب»، «التنسيق والجهد والدعم المماثل لكل من دولة الإمارات ومصر والأردن على الساحة العراقية، وستظهر النتائج الإيجابية لهذا التقارب والتنسيق في القريب المنظور، خاصة أن معظم الساحة العراقية متفائلة من التقارب العربي للعراق، وبالذات من السعودية والإمارات».
استراتيجية إدارة ترامب في العراق
يلخّص السفير حسن الشحي، الاستراتيجية الأميركية للعراق، في ست نقاط:
1- تحقيق الانتصار على «داعش» بطريقة «تظهر (فيها) للعالم أجمع أنها كانت الأداة الأقوى في دحر الإرهاب في العراق وسوريا وملاحقة عناصره ومقاتليه في الأقطار العربية الأخرى».
2- «تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق بالإبقاء على عدد من القوات الأميركية القتالية والخاصة».
3- «إعطاء هدف احتواء إيران أهمية قصوى وتعزيز هذا الهدف بتطويق النفوذ والتمدد الإيراني في العراق ومحاولة إبعاد الحكومة العراقية عن أن تكون تابعاً لطموحات وأهداف السياسة الإيرانية في المنطقة».
4- الحفاظ على علاقة متميزة مع حكومة إقليم كردستان وتعزيز الدور الأميركي في هذه المنطقة المهمة «وهذا لا يعني تشجيع الإقليم على الاستقلال والانفصال عن العراق».
5- «إبقاء المراقبة الميدانية والجوية واستمرار الاستطلاعات الأمنية والاستخباراتية لإفشال المشروع الإيراني التوسعي في العراق».
6- «اعتماد مبدأ تحقيق المصالح مع مراعاة الاقتصاد بالنفقات».
الإمارات تبارك شراء الولاءات
يتوقف السفير حسن الشحي، في البرقية التي تناولت زيارة رئيس الوزراء العراقي الثانية إلى السعودية، عند الاجتماع الأول لـ«المجلس التنسيقي السعودي - العراقي»، والذي انعقد خلال الزيارة نفسها في الـ22 من تشرين الأول/ أكتوبر 2017. يلحظ الشحي أن «المجلس لن يكون لجنة تقليدية تختص بدراسة حالات محدودة وتتخذ قرارات وتتركها من دون تنفيذ، بل إن دوره سيكون وضع الخطط التفصيلية لتعميق التعاون الاقتصادي». وهو تعاون تنظر إليه أبو ظبي ببالغ الاهتمام في سياق «تقويض الهيمنة الاحتكارية لإيران في العراق»، تماماً مثلما تنظر إلى قيام السعودية بـ«استقطاب المزيد من الحلفاء العراقيين الذي يمثلون أثقالاً سياسية وجماهيرية»، بما ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية التي تقتضي، بحسب الشحي، عدم ترك الساحة لإيران، لأن ذلك يعني «المزيد من الصراعات والحروب الداخلية في العراق الذي كاد ينزلق إلى حرب جديدة بين الحكومة العراقية والأكراد في أربيل».
الشحي: لنتعلّم من اليمن
في الوثيقة المعنونة بـ«زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للسعودية»، يقول السفير الإماراتي لدى العراق، حسن أحمد سليمان الشحي، إن «السعودية تنظر إلى التقارب مع العراق بجدية، وتريد أن تتجاوز أخطاء تجارب مشابهة مثل لجنة العلاقات السعودية اليمنية، وأن الهدف هو منع الانقطاع الذي طالما شاب العلاقة وفقاً لمتغيرات السياسة والمواقف». تقييم يبدو لافتاً تطرقه إلى تجربة «اللجنة الخاصة» السعودية بشأن اليمن، والتي تُعدّ تجربة فاشلة بامتياز. إذ إن اللجنة المذكورة، المؤلّفة من مشايخ يمنيين أنفقت عليهم السعودية مبالغ طائلة طوال عشرات العقود من أجل تنفيذ سياساتها في اليمن، لم تفلح في تمديد أذرع حقيقية وثابتة للمملكة في هذا البلد، وذلك ما أثبتته الحرب المندلعة منذ آذار/ مارس 2017. فالشخصيات القبلية التي راهنت عليها المملكة من أجل إحداث تحوُّل في المزاج الشعبي بدت غير معنية بما يريده السعوديون ويدفعون باتجاهه، فيما ظهرت «الرؤوس الكبيرة» من أمثال علي محسن الأحمر منشغلة بتقاسم «المغانم»، بل وتجرّأت على قلب المعادلة عبر محاولتها رشوة ضباط سعوديين وفق ما أظهرته قبل أشهر وثيقة رسمية صادرة عن «قيادة العمليات المشتركة» التابعة لـ«التحالف».
المصدر :
https://www.sada-alkhaleej.com/news/3315
https://telegram.me/buratha