عندما ظهر باراك اوباما على المسرح السياسي الامريكي رفع شعار خفض التوترات على الساحة الدولية، وبعد نجاحه في الدخول الى البيت الابيض قطع وعودا كثيرة مثل سحب القوات الامريكية من افغانستان والعراق واغلاق معتقل غوانتانامو والتعامل مع القوى الدولية بايجابية وحل المسألة النووية الايرانية وما شابه ذلك، لكن الان ومع اقتراب اوباما من الرحيل نجد بان الكثير من هذه الوعود لم تتحقق بل على العكس يقوم الرئيس الأمريكي بتوتير الاجواء الدولية قبل مغادرة منصبه، فما هي أسباب هذا التناقض في الأقوال والافعال؟
لقد لعب اوباما آخر اوراقه في وجه روسيا خلال الايام الاخيرة وأتخذ قرارا بطرد دبلوماسيين روس من امريكا تحت ذريعة تدخل الدبلوماسيين الروس في الشؤون الداخلية الأمريكية وفي الانتخابات الرئاسية التي أفضت الى تنحية الديمقراطيين من سدة الحكم، وحتى اذا كان اوباما صادقا في هذا الإدعاء فهذا يدل على ضعف وهشاشة الأجهزة الامنية الامريكية والمسؤولين الامريكيين لكن قادة البيت الأبيض الراحلين الذين أرادوا توجيه ضربتهم الأخيرة لموسكو لم يجدوا ذريعة أفضل لتبرير خطوتهم هذه أمام الرأي العام الامريكي وإضفاء نوع من الشرعية على هذا القرار على الصعيد الدولي ايضا.
لا يخفى على أحد بأن إدارة اوباما كانت بحاجة ماسة الى دور ايجابي روسي في الكثير من القضايا والملفات التي تواجه امريكا على الصعيد الدولي خاصة مع الحكمة التي أثبتت القيادة الروسية انها تتمتع بها خلال حكم فلاديمير بوتين، فخفض التوترات في شرق آسيا التي تعتبر منطقة حيوية لأمريكا كان ممكنا اذا تمت الاستعانة بدور موسكو الحليفة مع بكين وعدم استفزاز الصين، كما كانت روسيا ايضا من المساهمين في التوصل الى الاتفاق النووي مع ايران أما الآن فروسيا تعتبر من الدول الرائدة في محاربة الإرهاب التكفيري الذي ينتشر في سوريا والعراق وباقي مناطق شرق الاوسط وشمال افريقيا وافغاستان وآسيا الوسطى ووصلت اعتداءاته حتى الى قلب اوروبا، لكننا نجد ان الأمريكيين وخلال عهد اوباما عمدوا الى طعن الروس في خواصرهم العديدة مثل جورجيا ودول اخرى في القوقاز واوكرانيا وشجعوا العالم الغربي على فرض حصار اقتصادي على روسيا وتمديد حلف الناتو نحو الحدود الروسية والكثير من المواقف الأخرى التي تدل وتؤكد بأن ادارة اوباما لم تتنازل ابدا عن موقفها العدائي تجاه موسكو حتى اذا ارتدت ذلك على المصالح الامريكية.
واذا أردنا التركيز على موضوع طرد الدبلوماسيين الروس من امريكا وفي هذا الوقت بالتحديد فيمكن لنا ان نحدد عدة أسباب لذلك دفعت اوباما الممتعض من روسيا الى اتخاذ مثل هذا القرار، وأول هذه الأسباب هو فشل المخططات والمشاريع شرق الاوسطية الأمريكية والذي تجلى في الملف السوري بشكل كبير، وقد دقّ تحرير مدينة حلب السورية المسمار الأخير في نعش المخططات الأمريكية .
لقد شكلت سوريا بداية ومنطلقا للخطط الامريكية في الشرق الأوسط لكن تحرير حلب جعل الأمريكيون يواجهون طريقا مغلقا، ان هذه الخطط والمشاريع الامريكية المريبة هي التي قال عنها الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب بأنها بلعت مليارات الدولارات من الخزينة الأمريكية ولو كانت هذه الاموال تستخدم في داخل أمريكا لاستطاع الامريكيون اعادة بناء اقتصادهم عدة مرات، وبالطبع يعلم الجميع ان امريكا تلوم روسيا بسبب هذا الفشل في سوريا الى جانب عدة عوامل أخرى كما اعترف بذلك اوباما قبل أيام.
لقد قامت روسيا بإحياء دورها الإقليمي في الشرق الاوسط من البوابة السورية وحصلت على لقب القوة الإقليمية الفاعلة والمؤثرة نوعا ما في منطقة الشرق الأوسط الحساسة وهذا ما لم يرق للأمريكيين واوباما الذي بادر الى استخدام كل اوراقه ضد روسيا بدء من العقوبات الاقتصادية ووصولا الى طرد الدبلوماسيين الروس.
ومن الهواجس التي أقلقت ادارة اوباما أيضا هو تعزيز العلاقات الروسية التركية الذي أراده الكرملين رغم خطورة ما كان يقوم به الأتراك في المنطقة، فصبر الروس ونظرتهم البعيدة نجحت في جرّ أنقرة نحو موسكو وهذا يغيض البيت الابيض بالتأكيد لأن ادارة اوباما كانت تراهن على الدور التركي السلبي في المنطقة والاصطياد في مائها العكر.
ويسعى اوباما الان الى تدمير كافة الجسور التي تربط بين امريكا وروسيا لعرقلة مساعي دونالد ترامب لاعادة احياء العلاقات بين البلدين ووضع عقبات أمام تحسينها وجعل ترامب أمام الأمر الواقع وعلاقات مدمرة مع روسيا يصعب اصلاحها او يتطلب الكثير من الوقت لينهمك ترامب بذلك طيلة سنوات حكمه.
لقد بات واضحا ان الديمقراطيين في امريكا يريدون ايضا الانتقام من دونالد ترامب الذي هزمهم في الانتخابات الرئاسية فقرار طرد الدبلوماسيين الروس من واشنطن هو في الحقيقة خلق لمشكلة كبيرة لروسيا وترامب في آن واحد وتوجيه ضربة للطرفين معا فهل سينجح اوباما في جر الروس نحو المواجهة بالمثل وتحقيق مبتغاه أم ان دهاء الرئيس الروسي الذي لم يرد حتى الان على خطوة اوباما بالمثل سيحرمه من تحقيق حلمه الأخير؟