تؤشر الانتصارات المتحققة هذه الايام في عدة محاور على تنظيم "داعش" الارهابي الى نقطة تحول وانعطافة حقيقية ومهمة في موازين القوى بين القوات الامنية والعسكرية العراقية والحشد الشعبي وابناء العشائر من جهة، وتنظيم "داعش" ومن يقف وراءه ويسانده من جهة اخرى.
والاسباب والعوامل التي كان لها الاثر الكبير في احراز الانتصارات في مدن ومناطق مختلف من محافظة صلاح الدين، وفي مقدمتها بيجي، فضلا عن الامساك بزمام المبادرة في الانبار، كثيرة ومختلفة، لعل من اهمها، وضع الخطط العسكرية المدروسة والمحكمة، والمستوى العالي من التنسيق بين الجيش والحشد والعشائر وكذلك قوات البيشمركة الكردية، وفتح عدة جبهات لمقاتلة التنظيم من اجل استنزافه وتشتيت قدراته وارباكه، والضربات العسكرية الروسية القاصمة لمواقع واوكار التنظيم في سوريا، ومقتل عدد غير قليل من القيادات الميدانية الكبيرة والمهمة للتنظيم، وفاعلية وجدية مركز التنسيق الاستخباراتي المشترك بين كل من روسيا والعراق وايران وسوريا.
لن نستغرق طويلا في الخوض بتفاصيل وجزئيات الاسباب والعوامل المشار اليها، بقدر ما نسلط الضوء على مفاتيح (مناطق) النصر المهمة والحاسمة على تنظيم "داعش" الارهابي.
منذ وقت مبكر من بدء المواجهة مع "داعش" في حزيران-يونيو من العام الماضي، اكد الكثير من الخبراء المتخصصين في الشؤون العسكرية الاستراتيجية، والمطلعين على الطبيعة الجغرافية والديمغرافية العراقية، ان هناك ثلاث مدن هي جرف النصر وبيجي والفلوجة تمثل مفاتيح النصر الحقيقي والحاسم على داعش، وبقاء أي منها بيد التنظيم يعني بقاءه، واستعادتها منه يعني بداية نهايته ان لم تكن نهايته بالكامل.
بالنسبة لجرف النصر، فإن قصتها لم تعد خافية على احد، فبعد ان كانت طيلة اعوام عديدة خارجة عن نطاق سيطرة الحكومة، وخاضعة للجماعات الارهابية التكفيرية (القاعدة ثم داعش) ومعها بقايا حزب البعث المنحل، تم تطهيرها من الدواعش تماما في مثل هذه الايام من العام الماضي.
وقد كان لذلك الانجاز، الذي ساهمت قوات الحشد الشعبي مساهمة فاعلة ومحورية في تحقيقه، اثر كبير في تغيير مسارات ومعطيات المواجهة، فارتباطا بالموقع الاستراتيجي المهم لجرف النصر، باعتبارها حلقة وصل بين اربع محافظات هي العاصمة بغداد من الشمال، وكربلاء من الجنوب، والانبار من الغرب، وبابل من الشرق والجنوب، فإن تحريرها ادى في جانب منه الى دفع الخطر عن العتبات المقدسة في كربلاء والنجف، وتأمين العاصمة بغداد من جهة الجنوب بعد ان تم تطهير مناطق البحيرات واللطيفية واليوسفية والدورة من الجماعات الارهابية، الى جانب قطع جزء غير قليل من خطوط الامداد لـ"داعش" من الانبار، علما ان حدود جرف النصر تمتد الى مدينة الفلوجة التابعة للانبار، والتي لا تبعد سوى خمسين كيلومترا عن بغداد من جهة الغرب.
وكان من بين الانعكاسات الايجابية الواضحة لتحرير جرف النصر، التراجع الكبير في معدل العمليات الارهابية التي كانت تستهدف قضاء المسيب، وكذلك عدم تعرض زوار الامام الحسين عليه السلام المتجهين سيرا على الاقدام لاحياء اربعينية استشهاده العام الماضي لعلميات ارهابية بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة ومدافع الهاون، كما كان يحصل في الاعوام السابقة.
والان وبعد عام على تحرير جرف النصر، فإن المفتاح الاخر للنصر النهائي على "داعش"، المتمثل بقضاء بيجي التابع لمحافظة صلاح الدين، اكتمل –او على وشك اكتمال- تحريره من "الدواعش"، في المعارك الدائرة حاليا.
وهنا فإن الموقع الجغرافي لبيجي يعد عاملا محوريا، ونقطة قوة بيد من يسيطر عليها، اذ ان تلك المدينة تقع شمالي غربي تكريت، ويجاورها من الشمال قضاء الشرقاط التابع لمحافظة نينوى، ومن الغرب قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك، وكلا القضائين يخضعان بصورة شبه كاملة لقبضة تنظيم داعش، ولا شك ان تحرير بيجي التي يتجاوز عدد سكانها المائة الف نسمة، يعني تضييق الخناق على "الدواعش" في الشرقاط والحويجة، وهذا ما بدا واضحا الان، خصوصا وان الخناق اخذ يضيق على جماعات التنظيم في الانبار. وبالتالي الاقتراب اكثر فأكثر من الموصل.
فضلا عن الاهمية الجغرافية لبيجي، فهي تتمتع بأهمية اقتصادية، من خلال وجود مصفى بيجي النفطي، الذي يعد واحدا من اكبر المنشآت النفطية لا في العراق فحسب وانما في عموم الشرق الاوسط، اذ تبلغ مساحة المصفى الكلية ما يقارب ثلاثين كيلومترا مربعا، ويضم مصانع ومنشآت عديدة لاستخراج النفط وتكريره وانتاج المشتقات النفطية المختلفة، ويشكل المصفى احد المفاصل الرئيسية لعصب الاقتصاد العراقي المعتمد اساسا على النفط.
وقد استفاد تنظيم "داعش" الارهابي كثيرا من سيطرته على المصفى المذكور في الحصول على موارد مالية لا يستهان بها. واليوم فإن طرده من المصفى، يعد انكسارا وضربة موجعة جدا له، رغم ان ما لحق من دمار وأضرار بعموم منشات المصفى بسبب المعارك التي شهدها طيلة شهور عديدة كان كبيرا. وطبيعي ان زخم الانتصار المتحقق في بيجي ستكون له اصداء واثار وانعكاسات تتجاوز تلك المدينة الى مناطق اخرى، وما يجري على الارض من وقائع يثبت ذلك.
والمفتاح الثالث للنصر، يتمثل بقضاء الفلوجة الذي يبدو انه شديد الشبه من حيث موقعه الجغرافي وارتباطه بالعاصمة بغداد بجرف النصر، فالفلوجة، كمدينة تبلغ مساحتها 480 كيلو متر مربع، وعدد سكانها ينهاز نصف مليون مواطن، تمثل هي الاخرى حلقة وصل بين كل من العاصمة بغداد شرقا، ومحافظة الانبار غربا وشمالا، وبابل وكربلاء جنوبا. وهذا الموقع ربما جعلها ساحة صراع ومواجهات دموية ودامية منذ الاطاحة بنظام صدام قبل اكثر من ثلاثة عشر عاما وحتى الان، ومثلما تعتبرها الحكومة العراقية مفتاحا للنصر وهزيمة لـ"داعش" في باقي مدن الانبار، فإن تنظيم داعش يرى فيها قاعدة اساسية وحيوية له تنبغي الاستماتة من اجل عدم فقدانها، لان ذلك يستتبعه هزائم وانكسارات اخرى.
ولكن مجمل المؤشرات يذهب الى ان تحرير الفلوجة من الدواعش لن يكون بعيدا، لا سيما ان تحرير بيجي ومناطق اخرى من صلاح الدين يعني اقترابا اكثر من الانبار وتوابعها، ونفس الشيء بالنسبة للرمادي، مركز محافظة الانبار، فإن احكام الطوق عليها وقطع كل مصادر الدعم والاسناد اللوجيستي للدواعش يزيد من مأزقهم في الفلوجة.
وقد لا تكون توقعات بعض القادة والخبراء الامنيين والعسكريين التي تقول بأن حسم امر الفلوجة سيكون قبل نهاية العام الجاري، بعيدة عن الواقع. وهذا يعني ان نهاية هذا العام هي بداية نهاية داعش في العراق، التي تترافق معها عملية تدمير منظمة ومتتابعة له في سوريا تقودها روسيا وحلفاؤها ، بعدما ماطلت وراوغت الولايات المتحدة الاميركية ومعها حلفاؤها واصدقاؤها كثيرا، حتى سمحت لـ"داعش" بالوصول الى تركيا ومصر وبلدان اخرى، كان ممكنا الحؤول دون السماح له بالوصول اليها لو كانت النوايا صادقة والارادات جادة.
https://telegram.me/buratha