د . رغيد الصلح
في جولات المبارزة المتنامية بين تركيا وإيران على زعامة منطقة شرق المتوسط، تبدو طهران كأنها سجلت في اليمن انتصاراً بالنقاط على أنقرة خلال الأيام الأخيرة . هكذا فهم انتصار الحوثيين وصعودهم المتوالي في رحلة السيطرة على مفاصل الدولة اليمنية . فلولا الدعم الإيراني للحوثيين، كما يقول البعض، ما كان لهم أن يتحولوا في فترة قصيرة نسبياً من فريق سياسي في اليمن إلى القوة الرئيسية فيه، وما كان لهم أن يحققوا هذا الصعود الذي فاق من حيث حجمه وسرعته التوقعات . وباستثناء قرابة مذهبية لا يصح تجاهلها بين ايران والحوثيين، فإن المعنيين بالشأن اليمني يعودون إلى وقائع مهمة تدل على أهمية الدعم الإيراني العسكري والمادي للحوثيين وفي مقدمتها حادثة سفينة "جيهان1" التي احتجزتها السلطات اليمنية عام 2013 وعثرت فيها على شحنة مهمة من السلاح مرسلة إلى الحوثيين . إلى ذلك تتعدد الروايات اليمنية عن أشكال أخرى ومتعددة من المساعدات منها مالي ومنها تدريبي قدمتها طهران إلى الحوثيين .
من الصعب أن نجد في انتصار حلفاء إيران في اليمن تراجعاً تركيا إلا إذا اعتبرنا المباراة اليمنية امتداداً للمباراة على كأس الزعامة في المشرق . والحقيقة أن التاريخ يعلمنا ان تداعيات مثل هذه المباراة لا تنحصر في مكان واحد فلا بد أن تصل تفاعلاتها إلى أنقرة . وهنا لا بد أن يلاحظ المسؤولون أن المنافس الإيراني بات يتمتع بنفوذ لا يستهان به في العراق، سوريا، لبنان، وأخيراً لا آخراً اليمن . بالمقابل فإن لتركيا علاقات وطيدة ولكن مع عدد محدود من دول المنطقة واللاعبين على مسرحها . وما يلفت النظر هنا هو انه عندما بدأ السبق بين الدولتين، كانت تركيا متقدمة فيه بأطوال على إيران . كانت لأنقرة علاقات ودية وحميمة مع العديد من الدول العربية، وكان طموح الزعماء الأتراك أن تصل بلادهم إلى حال -تصفير الأزمات- مع سائر دول المنطقة، وأن تكون لأنقرة كلمة مسموعة على المسرح الإقليمي . ولم تكن علاقات إيران مع دول المنطقة تضاهي علاقات تركيا من حيث تطورها والنوايا الحسنة المحيطة بها . فلماذا تراجع الأتراك وتقدم الإيرانيون في جولات الصراع على زعامة منطقة شرق المتوسط؟ يمكن للمرء أن يعثر على العديد من الإجابات عن هذا السؤال في مقدمتها ما يلي:
الإرث الكمالي، وقد تجلى تأثيره في سياسة أنقرة الإقليمية في المجالات التالية:
إن حكومة العدالة والتنمية قدمت - بتأثير التركة الفكرية الكمالية- في البداية، مسألة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي على اهتمامها بتطوير علاقاتها المشرقية، أما إيران التي لم تكن تملك خياراً مماثلاً للخيار التركي، فقد حصرت همها في تعزيز نفوذها في منطقة المشرق . وهكذا بينما كانت أنقرة تقرع باب أوروبا من دون مجيب، كانت طهران منهمكة بنشر وتوطيد مكانتها الإقليمية .
إن الموقف السلبي من التوسع والاستردادية وإلى دخول المغامرات خارج حدود تركيا كان واحداً من المبادئ الست للكمالية . وبتأثير هذا الموقف سلكت النخبة السياسية التركية طريق الابتعاد عن المنطقة وتوطيد صلاتها مع دول الغرب .
ومع ترسيخ أقدام العدالة والتنمية في السياسة التركية ووضوح الموقف الأوروبي السلبي تجاه انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، اتجه حزب العدالة والتنمية إلى الاهتمام بسياسة تركيا المشرقية، ولكن بعد أن كانت إيران قد قطعت شوطاً في هذا المضمار .
إن الأوضاع الراهنة في سوريا والعراق أثرت تأثيراً كبيراً في دور كل من إيران وتركيا على الصعيد الإقليمي . فإيران كانت دوماً دولة إقليمية مهمة، ولكنها لم تكن لتتمكن من الوصول إلى مكانتها الحالية لولا الحرب الأمريكية على العراق . فرغم أن العراق أصغر حجماً (المساحة وعدد السكان) من إيران، إلا أنه كان قادراً منذ تأسيسه في العشرينات، على القيام بدور الحاجز )Buffer( بين ايران والمنطقة العربية . وتمكن العراق في مراحل مختلفة من تاريخه من احتواء الطموحات الإيرانية في الخليج وبعض المناطق العربية الأخرى . الاحتلال الأمريكي للعراق وحل الجيش العراقي حوّلا العراق من حاجز أمام التوسع الإيراني في المنطقة إلى بوابة لولوجها وللتمدد فيها .
وبالمقارنة مع إيران كانت تركيا هي الأخرى دولة اقليمية وفاقت إيران من حيث الأهمية . واستطراداً يمكن القول إنه لو تدخلت الولايات المتحدة في سوريا كما تدخلت في العراق، لكان من المستطاع أن تبسط أنقره نفوذها في المنطقة وأن تمارس سياسة احتواء إيران . ولكن الولايات المتحدة لم تشأ أن تفتح بوابة المشرق السورية أمام الاتراك . الاختلاف في السياسة الأمريكية تجاه الأتراك والإيرانيين والعراق وسوريا ساعد على صعود إيران وعلى تراجع تركيا .
إن إيران تتفوق على تركيا في مكانتها المذهبية . فهي الدولة الشيعية الأولى والوحيدة في العالم وليس لها في هذا المضمار من منافس، خاصة بعد تحول العراق إلى بلد موال لها . بالمقابل فإن لتركيا منافسين عديدين من الدول العربية وغير العربية بحيث إنها لا تستطيع أن تنسب لنفسها بسهولة مثل المكانة المذهبية التي تحتلها إيران . قد تكون تركيا الأولى بين المنافسين، ولكن في كل الحالات فإنها لا تستطيع أن تبسط عليهم نفوذاً يضاهي النفوذ الذي مارسته وتمارسه -على سبيل المثال- في العراق . هذه الميزة تعطي الإيرانيين نقطة تفوق على تركيا .
إن التنافس بين القوى الإقليمية غير العربية للسيطرة على المنطقة العربية هو من أهم أسباب التوتر والاضطراب الذي يلم بدولها . وهذا التوتر سوف يستمر وآثاره ستبقى إلى أن تستطيع الدول العربية الوصول إلى صيغة تفاهم وتعاون فيما بينها فلا تعود أرضاً للصراعات المستمرة والمتفجرة وعاملاً في تهديد السلم الإقليمي والعالمي .
الراية
25/5/150215
https://telegram.me/buratha