عقيل الشيخ حسين
في آخر كلام له من القاهرة، أعاد وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، التأكيد على أن "داعش" هي تنظيم إرهابي يشكل خطراً على العراق وعلى الأمن والسلام في المنطقة، وبالتالي تنبغي محاربته. وكلامه هذا جاء مشابهاً لأوائل تصريحات المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم الرئيس أوباما، بخصوص "داعش" وضرورة محاربتها، وذلك منذ العملية الخاطفة والواسعة النطاق التي قامت بتنفيذها في العراق.
واشنطن: ثبات في الخطاب الفارغ وترجرج في المواقفلكن هذا الثبات، على مستوى التصريحات، في الموقف الأميركي من "داعش" وغيرها من التنظيمات الإرهابية "المتطرفة"، الناشطة في سوريا أيضاً، لا يترجم نفسه إلى ثبات على مستوى محاربة تلك التنظيمات.
ولا يكفي، وسط تناقض التصريحات الأميركية التي تضع جميع الاحتمالات (أي بما فيها التدخل العسكري المباشر) على الطاولة، ثم تؤكد عدم النية في إرسال قوات برية، قبل أن يتبين أن القصف بطائرات من غير طيار هو نفسه أمر غير محتمل، لا يكفي للمراقب أن ينظر بعين الحيرة إلى مغزى اقتراب سفن حربية أميركية بينها حاملة طائرات ضخمة من المياه العراقية.
وفي السياق نفسه، لا يمكن بحال من الأحوال، اعتبار هذا التطور تمهيداً، بالضرورة، لتوجيه ضربة ماحقة لداعش، رغم كل التصريحات الأميركية بهدر دم هذا التنظيم.
وبالطبع، لا يمكن للتصريحات الكلامية الأميركية أن تصلح كمرجعية ذات مصداقية. فقد سبق ورأينا كيف أن تصريحاً لسفيرة أميركية في بغداد قد فسر من قبل صدام حسين على أنه ضوء أخضر لغزو الكويت. كما رأينا كيف انفضحت الكذبة المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل.
وهم الأميركيين بالقدرة على النجاح في ما عجز عنه صدام في حربه على إيران هو ما دفعهم إلى غزو العراقكثيرون لم يدركوا حتى اليوم الأسباب الحقيقية لإقدام الولايات المتحدة على تدمير العراق. كل الفرضيات التي وضعت لتفسير ذلك غير متماسكة: التهديد لأمن "إسرائيل" بأسلحة دمار شامل غير موجودة أصلاً؟ ديكتاتورية النظام العراقي وحرص الولايات المتحدة على نشر الديموقراطية وحماية حقوق الشعوب؟ وضع اليد على حصة من نفط العراق لا تساوي عشر ما أنفقته الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب من أموال في تلك الحرب؟ ...
التصريحات الأميركية التي تدين داعش هي من عائلة الأكاذيب التي استخدمتها واشنطن في حروبها على العراق وغير العراقلكن ذلك لا يعني عدم وجود فرضية متماسكة: منذ اللحظة التي عجز فيها صدام حسين عن ضرب الثورة الإسلامية الناشئة في إيران، واضطر إلى وقف هذه الحرب، كان من الواضح أن نظامه قد أصبح في حكم المنتهي. لأسباب منها فقدانه الصلاحية كرأس حربة أميركية-أوروبية-إسرائيلية- عربية "اعتدالية"، في الهجوم على الجمهورية الإسلامية. ومنها رياح الثورة الشعبية التي كانت قد بدأت تهب غضباً على نظام صدام حسين بسبب سياساته الداخلية القمعية والتمييزية وبسبب الخسائر والآلام التي تسبب بها للعراق خلال ثماني سنوات من حربه غير المشروعة على إيران.
لكن الخوف المشترك عند الأميركيين وحلفائهم من تداعيات الثورة الشعبانية التي انطلقت من صفوف الجيش العراقي المنهزم في الكويت وعمت سريعاً جميع المقاطعات العراقية غير السنية، جعلهم يغيرون موقفهم مؤقتاً من صدام، ويقدمون له المساعدات اللوجستية والعسكرية اللازمة لقمع الانتفاضة. وكانت النتيجة تصفية الانتفاضة ومقتل ما يزيد عن 300 ألف عراقي في النجف وكربلاء وغيرها من مدن وقرى الجنوب.
ورغم قدرته على قمع الانتفاضة، كان من الواضح أن صدام حسين قد أصبح أكثر عجزاً عن لعب دور رأس الحربة في مشروع ضرب الجمهورية الإسلامية في إيران. وكان من الواضح أيضاً أن الظروف قد أصبحت أكثر من ملائمة لقيام جمهورية إسلامية في العراق. من هنا، كان احتلال العراق عام 2003 عبارة عن حرب استباقية تقودها أميركا مباشرة لمنع قيام تلك الجمهورية التي لم يكن نظام صدام قادراً على مقاومتها.
مهمة داعش هي سد الفراغ الناشئ عن العجز الأميركي في العراقيوم العراق، في العام 2014، شبيه بأمسه خلال الفترة الممتدة من العام 1980 إلى العام 2003، مع فارق أساسي: سقوط صدام واندحار الاحتلال يصب في مجرى ثورته الإسلامية التي تتحرك ببطء وثقة منذ قمع الانتفاضة الشعبانية. وهي قد أصبحت اليوم أكثر قوة ونضجاً. وأكثر خطراً من الناحية الاستراتيجية، بقدر ما يتجه العراق نحو احتلال موقعه الوازن في محور المقاومة.
داعش، وما يسمى بالثورة في بعض المحافظات، وبقايا صدام، والدعم التركي والسعودي والتحرك الكردي، وخصوصاً أجهزة الاستخبارات الأجنبية وحرب التفجيرات الدائمة، كل ذلك محاولة لسد الفراغ الناشئ عن عجز الولايات المتحدة عن ضرب إيران وعن وقف تقدم العراق نحو احتلال موقعه الوازن في محور المقاومة. أما الأساطيل الأميركية، فالأمل معقود عليها في جر حبات الكستناء إلى ملعبها فيما لو تمكن معسكر الإرهاب من تحقيق أهدافه. وإلا فإنها لن تفعل غير الانسحاب ومواصلة التقهقر نحو المحيط الباسيفيكي.
11/5/140625
https://telegram.me/buratha