( بقلم: السيد حسن الهاشمي )
لماذا الإمام الحسين مصباح الهدى؟
عن الحسين بن علي عليهما السلام قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وعنده أبي بن كعب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: مرحبا بك يا أبا عبد الله يا زين السماوات والأرض، قال له أبي: وكيف يكون يا رسول الله زين السموات والأرض أحدٌ غيرك؟ فقال: يا أبي: والذي بعثني بالحق نبياً إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض، وانه لمكتوب عن يمين عرش الله: مصباح هدى، وسفينة نجاة. (بحار الأنوار، ج36، ص204، باب40، ح8)
لعل سؤالا نستلهمه من الحديث النبوي الآنف الذكر: كيف يكون الحسين سفينة نجاة نركبها لترسو بنا في مرفأ السعادة الدنيوية والأخروية؟ وهنا نقول: في الظلام لا يمكن ركوب السفينة إلا بمصباح يهدي الإنسان إليها، لذا فالحسين مصباح ينير الطريق أولا، وهو سفينة نجاة في بحر متلاطم الأمواج ثانيا؛ لأن سفينة الحسين (عليه السلام) تمتلك عوامل الإضاءة والإنشداد، وعناصر الإثارة والانطلاق، وأسباب الاستقامة والانتصار. وطالما أن سفينة الإنسان في الحياة تبحر من الولادة إلى الوفاة وكل سفينة على شاكلة أهلها، ومن الواضح أنه ليست كل سفينة توصل صاحبها إلى ساحل الأمان والنجاة، ولهذا فأن الرسول رأفة بنا قد أدلنا على تلك السفينة الناجية التي تمثلت بها كل القيم والمناقبيات الإنسانية الخالدة التي ما انفتأ الإمام العظيم من الدعوة إليها وبذل الغالي والرخيص في سبيل تحقيقها؛ لتنعم البشرية قاطبة في ظلها الوارف وعطاءها الذي لا يبور.
ضمانة الهدى وطريق الفلاح
إن أبا عبد الله عليه السلام كما أنبأنا بذلك الصادق الأمين هو مصباح للهدى، وسفينة للنجاة. والإنسان بحاجة في حياته إلى أمرين؛ الهدى والفلاح، الهدى لكي يعرف الطريق، والفلاح لكي يصل إلى أهدافه. والإمام الحسين عليه السلام يضمن لنا تحقيق هذين الأمرين. وهذا يعني انه عليه السلام يمثل تلك القيم والمبادئ التي نزل بها الوحي، والتي تبصر الإنسان بطريقه في الحياة. والحسين عليه السلام بنهجه وكلماته المضيئة، والحب الذي له في قلوب المؤمنين يمثل الهدى في الدنيا والنجاة في الآخرة.
وإذا تدبرنا في آيات الذكر الحكيم نرى أن الهدى والفلاح هما نهاية وعاقبة المتقين، ففي بداية سورة البقرة نقرأ قوله تعالى: (الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لا َريْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ. (البقرة: 1-2)، حتى تصل إلى قوله: (أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) (البقرة:5). فالهدى هو القرآن، والذي يدلنا على هذا الهدى هو الإمام الحسين عليه السلام من خلال كلماته وأفكاره، ومن خلال تجسيده للقرآن. فقد كان عليه السلام القرآن الناطق بما قام به من حركة ونهضة، ولذلك كان مصباحا للهدى؛ أي تفسيراً وتأويلاً صحيحاً للقرآن الذي أمرنا بمقارعة الطغاة والظالمين، وان لا نشرك بالله أحدا. ثم أن الحسين عليه السلام هو في نفس الوقت سفينة نجاة، فالبشرية معرضة لان تبتلعها أمواج الفتن، وتهددها الأخطار، وعليها إذا ما أرادت التخلص من هذه الفتن والأخطار أن تتمسك بنهج أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
ترى من الذي يجب أن يقوم بمهمة إزالة الانحراف الواسع العميق الذي دب أو يدب في المجتمع غير أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذي ادخره الله سبحانه لإزاحة المظالم والمآثم عن العباد؟ لهذه الأسباب قرر الإمام الحسين أن ينتفض ضد ذلك الواقع الفاسد الذي كان يكتنف الأمة، فأضحى منارا للأحرار وشوكة في عيون الظالمين. وهو بحق كما وصفه الرسول مصباح الهدى وسفينة النجاة، لأنه هو الذي أنقذ الله به البشرية كلها من الضلالة، وإلا لكان الدين في خبر كان ولانتهى كما انتهت الأديان السابقة.
إن الإمام الحسين عليه السلام جاء ليعلمنا أن الدين والإيمان حقيقة. فالإيمان ليس بالتظني ولا بالتمني وإنما هو ما وقر في القلب، فإذا لم يوجد النور في القلب، ولم تكن للإنسان القدرة على نهي النفس عن الهوى، فيؤدي العبادات وهو يعبد الشيطان وهوى النفس، فان تلك العبادات مردودة. فالله عز وجل لا يتقبل إلا من المتقين، وهذه هي حقيقة الدين.
وهكذا كان الإمام الحسين عليه السلام ضمانة هدى وطريق فلاح ومجسة صلاح؛ لكل من يروم سبر غور فضاءات العدل والحرية والفضيلة، ويسبح في مدياتها الرحبة، وكل أمة تضمخت بمدلولات النهضة الحسينية الرائدة فهي سائرة لا محالة في طريق المجد، وأعداءها في هلاك مقيت، ربما لم أجد مصداقا لهذا العنوان أكثر إشراقا من جدلية الصراع البعثي-الحسيني في ثلاثة عقود ونيف المنصرمة، فالديكتاتورية البغيضة المتمثلة بصدام لم تألوا جهدا إلا بذلته للانقضاض على تلك الوهجة المتقدة في نفوس الجماهير الحسينية لاطفاءها، ولكنها أبت إلا استعارا وتوهجا وإشراقا، فتمترس العدو الغاشم بالدين لمحاربة الدين وأهله، من قبيل الانتساب إلى الإمام الحسين، والتمشدق بشعار التكبير، وهو قد عقر التكبير والتهليل والتوحيد!! وهذه هي الطامة الكبرى والهزيمة العظمى، أن يلجأ الديكتاتور إلى شعارات هي بالأصل في تضاد منه بالسلوك والعمل.
وغرقت في بحر من الأنوار
هواجس الظلام التي تنتاب النفس الأمارة للإنسان بين الفينة والأخرى لا يمكن تبديدها إلا بمصابيح الهدى والاستقامة التي تتمثل بأرقى أنواعها بالإمام الحسين ورهطه الراقدين من حوله في بقعة هي بحق ترعة من ترع الجنة، وبالتحديد تلك المنطقة الممتدة بين الضريحين المباركين للإمام الحسين وسيدنا العباس عليهما السلام وحولهما، التي هي منورة بأنوار تلك المصابيح المعنوية المتوهجة التي تقذف قلوب المؤمنين بالهدى والاستقامة، وقد زينها لفيف من المؤمنين بما تجود به أنفسهم ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون بإنارة حديثة قد جعلت المنطقة برمتها تغرق في بحر من الأنوار، وقد تزامن توهج تلك الأنوار تيمنا بذكرى ميلاد سيدة نساء العالمين مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، وافتتحت اللجنة العليا لإدارة العتبات المطهرة في كربلاء المقدسة مشروع الإنارة الحديث بمشاركة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي الأمين العام للروضة الحسينية المقدسة وبحضور مسؤولين من الإدارات الثلاثة التابعة لها وبعض أعضاء مجلس محافظة كربلاء المقدسة والعديد من الضيوف الذين وفدوا من بعض البلدان الإسلامية، وذلك ليلة المولد المبارك 20جمادى الآخرة 1427هـ الموافق ليلة 16 تموز 2006م.
يتكون المشروع من 23 عمودا بارتفاع 27مترا للعمود الواحد، حيث يحتوي العمود على مجموعة من المصابيح الزئبقية بعدد 16 وبقوة (400) واط لكل واحد، يستند العمود على قاعدة حديدية مثبتة على كتلة كونكريتية بأبعاد 4 أمتار طول و 4 أمتار عرض وبعمق 3 أمتار، حيث يرتبط بين العمود والآخر بشبكة من الأنابيب المثبتة تحت الأرض والتي تم تسليك الكهرباء من خلالها، مع تصميم فتحات للصيانة قرب كل عمود يتم التحكم بفتحها يدويا، فيما يتم صيانة مجموعة الإنارة للعمود من خلال محرك كهربائي موجود في قاعدته يتم بواسطته إنزال المجموعة لصيانتها ثم إعادتها كهربائياً، ويسهل تلك العملية احتواء العمود الواحد على خمس قطع متساوية متلبسة بعضها بالبعض الآخر مكونة عمودا ذا شكل مخروطي.
يذكر أن الأعمدة تتوزع حول الروضتين المقدستين وما بينهما وفي حديقة باب القبلة الجديدة. كما أن المشروع تضمن ثلاثة مراحل ابتدأت بمرحلة حفر قواعد الأعمدة بأبعاد 4*4*3 وكذلك حفر مسارات مد الأسلاك الواصلة بينها بعد تكسير الإسفلت والأرصفة المغطية لها فيما تمثلت المرحلة الثانية بصب القواعد والتسليك مع مد الأنابيب وصب مجاريها فوق الأرصفة والشوارع، أما المرحلة الثالثة تبلورت في تجميع أجزاء العمود وتركيب المظلة الحاوية على المصابيح الزئبقية الجديدة، وهذه الحزمة الضوئية قد دخلت خدمة إنارة الدرب للزائرين إضافة لما هو موجود سابقا من أعمدة ونشرات وثريات وشموع وبمختلف الأحجام والأشكال.
الحياة في موتكم قاهرين
إننا الآن نريد أن نركب سفينة النجاة، وندخل في أمان الله تعالى تحت شراع أبي عبد الله الحسين عليه السلام، لذا علينا أن نصلح واقعنا الفاسد. وإذا ما مارسنا الشعائر الحسينية دونما اغتراف من النبع الحسيني الزلال فقد ضيعنا فرصة إصلاح نفوسنا وأوضاعنا، فعلينا أن نهيئ أنفسنا للانتفاع من المراسيم المتعددة وهي محطات معنوية رائدة لإعادة النظر فيما قد ينزلق به الإنسان في قول أو عمل، وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتنا مع بعضنا البعض. فإذا كان الواحد منا يحمل في قلبه - لاسمح الله - حقدا وضغينة أو سوء ظن تجاه أخيه المؤمن فعليه أن يزيله.
المهم هو العمل الذي يكون فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى، وان لا يكون هدفنا رضا الناس فقط. ثم أن مجالسنا يجب أن تكون مركزا للوحدة والتلاحم، لان راية الحسين عليه السلام هي راية الوحدة، لا راية الفرقة والاختلاف. فإذا ما تفرقنا فان الآخرين سيعيبون علينا بأننا نمتلك إماماً عظيما، ولكننا مع ذلك متفرقون عن بعضنا.
فلنوحد أنفسنا فان الوحدة هي حقيقة الدين، كما قال الله تعالـى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103)، وحبل الله هو القرآن الكريم، والنبي محمد صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومون عليهم السلام. ولنصلح أنفسنا ولا نخدعها بالمظاهر. فعندما نقف أمام أبي عبد الله عليه السلام ونقول: أني سلم لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم، فان هذا يقتضي أن نحب كل من أحب الحسين عليه السلام، ونوالي كل من والاه، لا أن نختلف معه ونُكنَّ له العداوة والضغينة، ونروح ضحية التنافس المقيت. فلنطهر أنفسنا، ولنكن صادقين مع إمامنا الحسين عليه السلام، وفي هذه الحالة سنركب سفينة النجاة، وسيكون الحسين عليه السلام شفيعنا في الآخرة، وسببا لنجاتنا من المشاكل والمآسي في الدنيا.
فالأمة التي تستطيع الدفاع عن نفسها، حيث تمتلك الشرف والإباء والحماسة وقدرة مقاومة الأخطار، هذه الأمة تبقى أمة شامخة، أما الأمة الفقيرة إلى نظام دفاعي، أو التي لا تجد في قاموسها مكاناً لمعاني الشرف والحماسة والرغبة في التصدي، فإنها أمة سرعان ما تنهار وتذوب في مطامح الأمم الأخرى. وفي هذا الصدد فأن الأمة التي تصبو إلى تحقيق مفردات الغيرة والحمية والشرف والاستعداد الدائم في مقاومة الأعداء والأخطار حتى الموت- فهي التي تسمو بتلك الأهداف الجليلة، ويعرف أبناؤها أنّ هناك ما هو أغلى من الحياة والعيش لبضعة سنوات يبقى فيها المرء صاغراً، هذه الأمة تبقى ولا تنهار، وهذه القيم الإنسانية الراقية عبّر عنها أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بقوله الكريم مخاطباً أصحابه: (الحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين) (نهج البلاغة للشيخ صبحي الصالح: الخطبة51) أي أن مصداقية حياة الإنسان لا تتحقق إلاّ بكونه منتصراً، وأن الموت يهيمن على الإنسان بكل ثقله مادام مقهوراً منهزماً وإن تصور كونه حياً...
نسب مشرق ببيت طهور
أن كل ما نملك فإنما هو من الإمام الحسين عليه السلام، ولولا أنه علّمنا كيف ندافع عن أنفسنا في مقابل الطغاة، وألاّ نموت إلا بعزةٍ واقفين، هذه الشعلة المتقدة فينا قد امتلكناها من الحسين، حيث قال سلام الله عليه: (لم اخرج أشرا ولا بطراً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) (العوالم للبحراني ج13، ص179) وهذه رسالة ليس من شأنها أن تكتب بيد عادية، بل تكتب بدم الحسين ودم أبنائه ودم رضيعه سلام الله عليهم أجمعين.
لقد تعلمنا من ثورة الإمام الحسين عليه السلام وما قدمه من تضحيات طالت أعزَّ ما لديه، أن الحياة التي كتبها الله سبحانه للإنسان ليست هذه الحياة التي يضطر الواحد منّا إلى الاستجداء أو خدمة الظلمة والخضوع لهم. بل الحياة التي تكون ملئها العز والكرامة والرفعة والشموخ.
إن ملحمة كربلاء علمتنا وعلمت أبناءنا كيف نحارب الظلمة والفسقة والمارقين لندافع عن قيمنا وشرفنا، فأمتنا لابد لها من تجاوز الذات لتحقيق المصالح الكبرى، إذ أن الدفاع عن القيم فوق الذاتيات وفوق المصالح الفردية العقيمة، وهذه المبادئ إذا ما تبنيناها فأن أمتنا ستكون خير أمة أخرجت للناس في النهج والسلوك.
ولعلنا قد قرأنا عبر الروايات التاريخية الخاصة بالإمام الحسين أن الطاغية يزيد قد أمر بأن يطاف برأس الإمام عليه السلام في مختلف المدن والقرى في البلاد الإسلامية، وأن الرأس الشريف كان يشع نورا وضياء، وكلما وضع في موضع من هذه المدينة أو تلك يقرأ قوله سبحانه وتعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَباً ) (الكهف: 9) وذلك ليبين للناس بأنه يمثل قصة أصحاب الكهف في التاريخ المعاصر، أي كما قام الفتية من أصحاب الكهف وانتفضوا وبينوا الحقيقة ودافعوا عن القيم من داخل حالة الظلم، فدافع الله عنهم ونصرهم فغلب دينهم على الدين الآخر، كذلك الإمام الحسين كرر القصة نفسها لأن قلبه قد امتلأ بالإيمان والتصديق بوعد الله القائل: (فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا) (فاطر : 43) واليوم نجد أن خط وفكر الإمام الحسين هو الذي ينتصر في العراق رغم إرادة الظالمين الذين مارسوا وما زالوا يمارسون أنواع القمع والديكتاتورية. ويبقى الحسين عليه السلام مصباحا متلألأ على مر الدهور يستضيء بنوره التائهون ويسترشد بهداه الضالون ويعتبر بنهضته التواقون للتحرر من كل زيغ وتيه وانحراف.
فيا من يتعشق نور الحسين، ويا من يسعى لفهم الحسين، ويا من يستجدي عطاء الحسين، ويا من يهيم بعلياء الحسين، افتحوا أمام عقولكم مسالك الانطلاق إلى دنيا الحسين، أكسحوا من حياتكم أركمة العفن والزيف والانحراف، حرّروا أنفسكم من ثقل التيه في الدروب المعتمة، عند ذلك تنفتح أبواب دنيا الحسين، وعند ذلك تتجلى الرؤية، وتسمو النظرة، ويفيض العطاء، فأعظم بإنسان... جدّه محمد سيد المرسلين، وأبوه علي بطل الإسلام الخالد، وأمه الزهراء فاطمة سيدة نساء العالمين، وأخوه السبط الحسن ريحانة الرسول، نسب مشرق وضّاء، ببيت زكي طهور... فاستحق بكل جدارة وسام السماء بأنه مصباح هدى وسفينة نجاة.
بقلم: السيد حسن الهاشمي
https://telegram.me/buratha