ولكن من يعرف محافظة النجف وعاداتها وتقاليدها لا يساوره عجب مما يحدث في تلك المدينة التي اعتادت منذ سنين على الخمول نهاراً والنشاط ليلاً.
يقول الدكتور حسن عيسى الحكيم أستاذ الدراسات العليا بجامعة الكوفة والمتخصص بالتاريخ "تبدأ حركة النجفيين بعد تناول طعام الإفطار باتجاهات عديدة، وفي مقدمتها الحرم الحيدري الشريف حيث الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، ويتجمع بعضهم حول من يقرأ دعاء الافتتاح، وهذه ظاهرة بارزة حيث يتحلق الناس حول هذا وذاك. أما الاتجاه الآخر فهو حضور المجالس، ولمجالس النجف ميزة خاصة، وبخاصة مجالس العلماء إذ تثار فيها المسائل الفقهية والنكتة الأدبية والتقفية الشعرية، أما مجالس الوجهاء فيتم فيها تداول الحوادث التاريخية والمآثر القديمة وهي لا تخلو من الأدب وغيره، وكثيراً ما يتم التلاقح بين مجالس العلماء والوجهاء من تبادل الزيارات، وعلى العموم أن النجف في شهر رمضان تنام في النهار وتنتعش في الليل حتى ساعات الفجر، فتصبح فيها الحركة مستمرة سواء على صعيد العمل أوعلى صعيد العبادة".
وعن عادات شهر رمضان في النجف يقول المؤرخ جهاد هادي أبو صيبع " هناك عادات وممارسات يستخدمها المواطنين في شهر رمضان منها يبدأ صاحب الطبل والمزمار وخاصة في الأحياء الشعبية حيث يقرع بها رؤوس النائمين من منتصف الليل الى وقت قبل السحور بساعة، ويقوم فيها الناس من هدأة الأسحار وسكنات الليالي حين يرق الأفق، فيردد " الا من مستغفر فاغفر له، الا من سائل فأعطيه، الا من تائب فأتوب عليه " ثم يجلسون على مائدة واحدة يتناولون الطعام استعداداً لصوم اليوم التالي، وهكذا دواليك الى أن ينتهي شهر رمضان".
أما عن المجالس الأدبية في ليل شهر رمضان في النجف فيقول الدكتور حسن الحكيم " وفي النجف مجالس الجمعيات الأدبية، إذ تقام فيها الأماسي، وبخاصة في المناسبات الدينية والتاريخية، ففي النصف الاول من شهر رمضان حيث مولد الإمام الحسن (عليه السلام) وتسمى تلك الليلة بـ(الماجينة) وهي تهنئة الإمام علي (عليه السلام) بهذا اليوم حسب القول المأثور ( لولا الحسن ما جينا ) وهي مناسبة مفرحة تحيا بالشعر والكلمات والبحوث وتقدم فيها الحلويات".
أما جهاد أبو صيبع فيقول " هناك بعض المنازل تعقد فيها الأمسيات الثقافية والأدبية الجميلة، حيث يلقى فيها المحاضرات للمتنوعة في التراث والثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة، يحاضر فيها أشخاص أكفاء، وكل في مجال اختصاصه، وتجري المناقشات والمداخلات بعد انتهاء المحاضر من محاضرته وكل يدلي بدلوه الى ساعات متأخرة من الليل".
ويضيف " إضافة الى ذلك، تشتهر النجف بظاهرة الزيارات المتبادلة بين الناس في شهر رمضان، و هناك منازل لوجهاء القوم، والمسؤولين، تفتح أبوابها لتستقبل الوافدين اليها من أبناء المحافظة، يتسامرون فيما بينهم، ويتناولون الفواكه والحلويات ويحتسون الشاي والقهوة بعد أن يفرغ الخطيب من قراءة العزاء الحسيني ويتخللها الوعظ والإرشاد، وهناك زيارات مستمرة لعلماء الدين من قبل المواطنين، وكذلك علماء الدين فيما بينهم يتزاورون".
وعن تاريخ إقامة هذه الأمسيات يقول وهاب شريف الباحث في تاريخ وفلكلور الشعوب " سأصف اليوم أمسيات رمضان التي تبدأ بعد الفطور، وأصل هذه الأمسيات التي غالبا ما تكون في البيوت، أنها تأسست أبان لنظام البائد لتكون بعيدة عن عيون السلطة التي تراقب كل شاردة وواردة من تجمع أواجتماع، لذلك فإن هذه الأمسيات الرمضانية لا تضم تحت جناح الليل الا المعارف من أهل الثقة الذين يطمئن لهم صاحب المجلس الرمضاني، حيث يأتون بموعد محدد ثم يغلق باب الدار، فيقرأ الشعراء قصائدهم اللاذعة بحق الأوضاع آنذاك، وكذلك التحليل السياسي ومناقشة التدهور الذي أصاب البلد أيام الطغيان البائد، والتي يميز تلك الأمسيات كثرة الطرائف واللطائف والنكات السياسية والتي يستأنس بها الحضور، هذا هو أساس الأمسيات الرمضانية الأدبية، ولماذا كانت البيوت مراكزها، وبعد التغيير الذي حصل في التاسع من شهر نيسان من العام 2003 تنفس الأدباء والمثقفون عبق الحرية وأنسام الديمقراطية، وإتسعت تلك الأمسيات وأصبحت مفتوحة للجميع، وبدأ أصحاب الأمسية يستعينون بالحدائق التي تستقبل الزائرين في مقدمة الدار، كما يستعينون بمكبرات الصوت وكاميرات الفيديو ودعوة الصحفيين والفضائيات، وغالباً ما تكون الأمسيات عن الأدب والشعر ومؤسسات المجتمع المدني ودورها في بناء العراق الجديد، إضافة الى مناقشة أمور كثيرة مثل الفيدرالية وقوانين النفط والاستثمار، فيستضيفون شخصيات من مجالس المحافظات والمجالس المحلية الاستشارية وقيادات دينية وحزبية، وما يميز هذه الأمسيات أنها بعيدة عن التحزب والطائفية والعنصرية وهدفها الأول والأخير وحدة الشعب العراقي والعراق، وتستمر الى ساعات متأخرة من الليل أحياناً إذا كانت المحاضرة تستوجب التعقيب والملاحظات والاضافات والاعتراضات خصوصاً إذا كانت تاريخية أوعقائدية، بينما أمسيات الشعر والقصة غالبا ما تنتهي بانتهاء الشعراء من إلقاء ابداعاتهم التي غالباً ما تنحصر بقصائد الشعر العمودي الذي اشتهرت به مدينة النجف".
واشتهرت النجف قديماً بتقديم أنواع معينة ومميزة من المشروبات بعد الإفطار، وخصوصاً في المجالس الأدبية والفقهية، يقول شريف في هذا السياق " تقدم في الأمسيات الحلويات المعتادة في رمضان مع المرطبات التي اصبحت (مسلفنة) ومعبأة بصورة لطيفة بعد أن كانت تقدم بكؤوس الزجاج، وهنا تضاءل دور (الشربت) الذي يحمل نكهة رمضان ليحل محله البيبسي والميرندا والسفن في أواني معدنية مغلقة، ومن شرابت وعصائر رمضان التي كانت تقدم في الأمسيات (النومي بصرة ويتم اعداده من نقعه بالماء لأيام معدودة، ثم يقدم بارداً مع السكر، وبذلك فهو يختلف عن الشاي النومي بصرة الساخن الذي يتم اعداده بدقائق عن طريق غليه على النار وكذلك شربت التمر هند الذي يتم اعداده بتفتيت فصوصه في الماء واضافة السكر والثلج اليه بعد عزل القشور والنواة، أما عصير السكنجبيل فيتم اعداده من غلي الخل والنعناع وإضافة السكر وتبريده ووضعه في قناني زجاج، في حين يتم اعداد شربت البلنكو من تنقيع بذور البلنكو التي تشبه بذور نبات الريحان بلونه الأسود البيذنجاني، وبعد تنقيعها بالماء تنتفش باطار زلالي أبيض، فتصبح حبات سوداء براقة في الماء الذي يضاف اليه السكر والثلج ويقدم الى الضيوف، وكل هذه الأنواع من الشربت تنفع في إزالة الصداع والدوار، وتنعش النفس بعد يوم من العطش، وخصوصاً إذا صادف رمضان في أشهر الصيف كصيفنا هذا".
وفي النجف هنالك عادات مميزة في شهر رمضان، منها كما يقول الدكتور الحكيم " ظاهرة الولائم العامة وبخاصة دعوة الفقراء الى الإفطار في ليال الجمع والمناسبات الدينية، كما لا تقام الفواتح على الموتى في النهار، إحتراماً للشهر الفضيل وقدسيته، فإن الفواتح تقام جمعيها بعد الإفطار، وقد خصت النجف بهذا الجانب، وفي ليال القدر توزع الأطعمة وبشكل ملحوظ على الناس وخاصة قبيل الإفطار كي ينعم الفقير بإفطار شهي".
أما التسالي المعروفة باسم (المحيبس) والتي تعتبر عادة تتشارك بها جميع المحافظات العراقية، فإنها تعقد في الشوارع، وذلك لقضاء وقت من المتعة حتى يحين وقت السحور، أو المشاركة في التقفية الشعرية، كما يقول الحكيم.
وهناك أيام محددة في شهر رمضان لها نكهة خاصة تميزها عن باقي أيام الشهر في محافظة النجف، وأهمها ثلالة أيام: ليلة الخامس عشر من شعبان، حيث يصادف فيها ولادة الإمام الحسن (عليه السلام) والثانية ليلة الواحد والعشرين منه، ففيها شهادة الإمام علي (عليه السلام) والثالثة هي ليلة القدر، التي تصادف بحسب أغلب المفسرين والفقهاء في ليلة الثالث والعشرين من الشهر.
يقول المؤرخ جهاد أبو صيبع " في ولادة الإمام الحسن عليه السلام الذي يصادف في الخامس عشر من الشهر، يقوم الأهالي بتوزيع الأكلات الشهية والحلويات، كل محلة بمحلتها أو كل حي بحيه، ويستخدم الصبية والأطفال الطبول والمزامير ويجولون في المحلة أوالحي يدورون البيوت منشدين ( لولا الحسن ما جينا ) ( ما جينة يا ما جينة ) ( تنطونا لو نروح ) وصاحب البيت يقدم ما تيسر له من المال أوالحلويات، وإذا امتنع صاحب أحد البيوت من إعطاء الهدية، فيقولون له منشدين ( يا بيت الفكر جب علينا الماي) ففي هذا اليوم المبارك يتسابق الناس وخاصة أيام ولادة الإمام الحسن (عليه السلام) في شراء البقلاوة والزلابية ويتفننون في إعدادها وحشوها بالجوز والفستق " .
وفي نهاية شهر رمضان يصعد الناس فوق منازلهم يترقبون رؤية الهلال أوالذهاب الى مكاتب العلماء ليتسنى لهم معرفة يوم العيد، وعندما تشرق شمس العيد ترسل ضياءها الى قلوب الناس بالفرح والمرح".
وفي السنين الأربع الأخيرة ظهرت بعض اللطائف و الطرائف في هذا الشهر الفضيل، يذكر منها وهاب شريف " هناك أشياء جميلة بدأت تظهر في شهر رمضان في السنوات الأخيرة، وهي أن المغتربين العراقيين خارج البلاد، غالباً ما يفاجؤون هذه الأمسيات الرمضانية بحضورهم حيث يأتون الى أهلهم وذويهم لقضاء شهر رمضان والعيد بين أهاليهم ومحبيهم، فيزدهر المجلس بهم، وتبداً الحكايات الجميلة، وبعض الذكريات مع أحاديث لا تقل جمالاً عن غربتهم والبلدان التي يمكثون فيها، فيكون الحديث عن تجربة العراق في بلدان الغربة، وأجمل ما في هذه اللقاءات أن الحاضرين يطلبون من الضيف العراقي القادم من الاغتراب ان يبقى في بلده ولا يعود ولكن ما الفائدة.
PUKmediahttps://telegram.me/buratha