وأسامة فاضل عباس (40 عاما) الذي كان يعمل سمسارا لبيع السيارات كان متجها بشاحنته البيضاء إلى أحد محلات تحويل الأموال بالقرب من ساحة النسور، لتحويل ألف دولار إلى دبي. والطبيبة محاسن محسن كاظم (64 عاما) كانت برفقة ابنها أحمد (20 عاما) الطالب في السنة الثالثة بكلية طب بغداد داخل سيارتهم البيضاء قرب ساحة النسور بعد يوم طويل قضياه داخل الأروقة الحكومية لتجهيز أوراق دخول الابنة الصغرى إلى الجامعة.
ويشير تقرير الصحيفة إلى أنه في الوقت نفسه كانت قافلة من أربع مركبات مصفحة خاصة بشركة بلاك ووتر تتجه من المنطقة الخضراء نحو ساحة النسور، وبعد 15 دقيقة تماما أسرعت هذه القافلة بمغادرة المكان وسط سحب كثيفة من الدخان الناتج عن انفجار قنابل، ومخلفة وراءها سيارات مليئة بالثقوب مع دماء سائقيها.
حراس بلاك ووتر قالوا إنهم تعرضوا لكمين وطلقات رصاص من الأهالي والشرطة العراقية، ولكن 10 من شهود العيان أصروا على أن حراس الشركة هم الذين بدأوا بإطلاق النار واستمروا بذلك حتى بعد رؤيتهم للمدنيين وهم يفرون هلعا من مكان الحادث. وتظهر سجلات المستشفى أن الحصيلة كانت 14 شهيد و 18 جريحا وهي حصيلة أكبر من أية أرقام قدمها المسؤولون سابقا في هذه القضية.
وتتذكر الصيلانية زينة فاضل (21 عاما) التي ربضت في صيدليتها التي تبعد نحو 100 متر عن ساحة النسور خوفا من الرصاص المنهمر من المركبات ومن المروحيات التي كانت تحوم فوق المكان،أنها رأت عناصر بلاك ووتر يطلقون النار بشكل عشوائي وتمنت كما قالت للصحيفة الأميركية " لو كان بإمكانها إطلاق النار على هؤلاء الحراس الذين كانوا داخل المروحيات".
والمثير للدهشة أن أحدا من ذوي الضحايا الذين التقت بهم "واشنطن بوست" لم يكن يعرف أن حراس بلاك ووتر يتمتعون بحصانة تمنع مقاضاتهم أمام المحاكم العراقية، حسب قانون أصدره مسؤولون أميركيون عام 2004. وسردت الصحيفة ما حدث بعد ظهر يوم 16 من أيلول، حسبما توافر لها من معلومات:
كان النفق الواقع تحت ساحة النسور قد شهد انفجار شاحنة ملغمة قبل نحو خمسة أشهر، ولم يرمم المكان إلا مؤخرا وقام العمال بدهن الأرصفة باللونين الأصفر والوردي، مع لافتة كتب عليها " صناع الحياة هم دائما المنتصرون".
وبالعودة إلى يوم 16 فقد بدأ موكب تابع لبلاك ووتر بالرد بعد انفجار وقع بالقرب من موكب تابع للخارجية الأميركية، على بعد نحو كيلومتر ونصف من ساحة النسور وعندما بدأ موكبهم بالاقتراب من الساحة تحركت قوة للشرطة العراقية في محاولة لإيقاف سير المركبات حتى تتنتهي الاشتباكات بين بلاك ووتر والمسلحين. وضمن هذه المركبات التي فشلت في الاستجابة بالسرعة اللازمة لأمر الشرطة بالوقوف، كانت سيارة الدكتورة محاسن وابنها أحمد الذي أطلق عليه أحد حراس بلاك ووتر النار، شاطرا رأسه إلى نصفين، حسبما أفاد ثلاثة من شهود العيان. ولأن السيارة ذات محرك أوتوماتيكي، فإنها لم تتوقف عن التحرك وعندما حاول الشرطيان علي خلف وسرحان ذياب إيقافها، فإن زخات أخرى من الرصاص انهمرت، وأدت إلى مقتل الدكتورة محاسن. عندها لجأ خلف وذياب للاحتماء وراء إشارة المرور من النيران المنهمرة التي حولت السيارة إلى كرة من النار، ولم يتعرف زوج الدكتورة محاسن على جثتها إلا عن طرق الجسر الخاص بأسنانها وتعرف على جثة ابنه من حذائه.
وأمام محققين من الخارجية الأميركية قال هؤلاء الحراس الأربعة وهم يقدمون شهادتهم تحت القسم إنهم وجهوا نيرانهم نحو السيارة، لإنها كانت تسير بسرعة كبيرة ولم تتوقف عن الحركة، ولكن شهود العيان أكدوا أن السيارة كانت تسير ببطء ولم تكن تشكل تهديدا أمنيا. وفي دقائق كان الرصاص يتطاير في كل الإتجاهات والناس يتراكضون والسائقون يغادرون سياراتهم، ويقول الشاهد أحمد علي جاسم إن عناصر بلاك ووتر كانوا يطلقون النار على الجميع من أربع مركبات تابعة لهم.
أسامة فاضل عباس الذي شاهد ما حدث للدكتورة محاسن وابنها، حاول إسعاف صديقه مجيد سلمان الذي كان جالسا إلى جانبه، وفتح الباب للنجاة بنفسه، فأصيب بطلقات في ساقة وبطنه. أما عباس فقد جرى إطلاق النار عليه عدة مرات مما أدى إلى وفاته على الفور.
وعلى بعد كيلومتر من المكان سمع الشرطي حسام عبدالرحمن صوت زميله خلف، وهو يطلب المزيد من سيارات النجدة والإسعاف فسارع بركوب دراجته النارية متجها نحو ساحة النسور حيث شاهد عناصر الشركة، وهم يطلقون النار على كل من يحاول مغادرة سيارته. وبعد مغادرة موكب بلاك ووتر لساحة النسور رصد عبدالرحمن سيارة خضراء اللون، كان مقعد سائقها فارغا فقلق كثيرا لإنها سيارة أجرة لابن عمه مهدي صاحب.
وقد توفي مهدي بعد نقله إلى مستشفى الكاظمية بثلاث ساعات وهو بين والديه وأخوته الذين كانوا يحيطون بسريره، وقد كان يفقد وعيه تدريجيا لغاية وفاته، بعد أن فشل الأطباء في إيقاف نزيفه الداخلي. والعائلة بأكملها كانت تعيش على دخله الشهري البالغ 480 دولارا وقد كان حلمه الوحيد هو أن يدخر مبلغا يمكنه من الزواج.
أما الدراجة النارية للحداد علي خليل فقد وجدت على حافة الساحة بعد أن أطلقت النار على رأسه وصدره ونقل إلى مستشفى اليرموك، حيث توفي لاحقا متأثرا بجروحه. وقد توجهت فوزية شريف زوجة الحداد الشهيد التي سبق أن أجبرتهما الجماعات المسلحة في حي الدورة على الرحيل، إلى مركز شرطة اليرموك لتسجيل دعوى بوفاة زوجها، وهي الخطوة الأولى في طريق مقاضاة شركة بلاك ووتر. وقد قام جميع ذوي الضحايا بهذه الخطوات أملا في مقاضاة الشركة التي حرمتهم من أحبائهم إلى الأبد.
https://telegram.me/buratha