سوريا - لبنان - فلسطين

صبرا وشاتيلا تذبح من جديد وشواهدها تطالها التهديد


 د. مصطفى يوسف اللداوي ||

 

ليس أبلغ شهادةً على مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين، التي ارتكبتها إسرائيل وأعوانها في العام 1982، من المقبرة التي تقع على أطراف مخيم شاتيلا وتحمل اسمه، ويدفن فيها أكثر من ثلاثة آلافٍ وخمسمائة فلسطيني ولبناني هم ضحايا المجزرة الدموية التي نفذتها مليشيات إسرائيلية الفكر والهوية، وفق التحقيقات المختلفة التي ألقت المسؤولية الكاملة عنها على السلطات الإسرائيلية، التي سهلت وأجازت وأشرفت على تنفيذها، مسجلةً بذلك واحدة من أبشع المجازر البشرية في التاريخ الحديث.

أصبحت مقبرة صبرا وشاتيلا الشاهدة على الجريمة البشعة والمجزرة المروعة مزاراً للفلسطينيين عموماً، وخاصةً لأولئك الذين فقدوا بعضاً من أفراد عائلتهم، حيث ما زالت قلوبهم تحمل غصة الألم ولوعة الفقد، وتكتوي بنار الحرمان وفاجعة الخسارة، رغم مرور أكثر من أربعين سنة على ارتكابها، إلا أن معالمها ما زالت حاضرة وماثلةً أمام العيون، وشاخصةً في وجه العالم شواهد حجرية تحمل أسماءً بشرية، وقبوراً متراصة تحوي رفاة آلاف الضحايا من الأطفال الرضع والصبيان والنساء والشيوخ، حيث لم تكن القلوب الحاقدة والعنصرية البغيضة تفرق بنيران بنادقها بين فلسطيني ولبناني، وبين صغيرٍ وكبيرٍ أو امرأةٍ ورجلٍ.

لكن هذه المقبرة التي باتت تحمل رمزيةً خاصة، ويحيي ذكرى مجزرتها الفلسطينيون واللبنانيون، وتؤمها وفودٌ عربيةٌ ودولية، شعبيةٌ ورسميةٌ، وشخصياتٌ رمزية سياسية وروحية، وأخرى فكرية وفنية، وتحرص على أن تضع أكاليل الورد على "نصب" المجزرة التذكاري، وتلقي كلماتٍ بالمناسبة، تدين فيها مرتكبي المذبحة، وتحمل سلطات الكيان الصهيوني المسؤولية عنها، ولا تبرئ المجتمع الدولي وعواصمه الكبرى من المسؤولية عنها، وتطالب الهيئات الحقوقية والمؤسسات القانونية والمحاكم الدولية، بضرورة ملاحقة المسؤولين ومحاسبتهم، وعدم التهاون في معاقبتهم أياً كانت مناصبهم ومسؤولياتهم الحكومية، والتأكيد على أن هذه الجريمة لا تسقط بالتقادم، ولا تغلق ملفاتها بموت جناتها.

باتت هذه المقبرة الشاهدة على الجريمة والدالة على المجرمين، تواجه تهديداً حقيقياً يستهدف وجودها، ويهدد بقاءها، مما يستدعي سرعة التدخل من جميع الجهات المسؤولة للحفاظ عليها، وعدم السماح بجرفها أو إغلاقها، فهذه المقبرة وإن كانت مشادة على أرضٍ خاصة، يملكها مواطنون لبنانيون، ويحق لهم بموجب القانون التصرف الحر بها وبممتلكاتهم، إلا أنها لم تعد عقاراً خاصاً أو أرضاً عادية، يجوز جرفها وإعادة تخطيطها، أو تغيير تصنيفها وتحويل صفتها، بما يهدد رمزيتها ويشطب ذاكرتها، ويزيل من على الأرض الشواهد الدالة على الجريمة، ويمسح أسماء الضحايا ويلغي حضورهم.

وعليه استكمالاً للجهود الوطنية اللبنانية التي تقع المقبرة ضمن مسؤوليتها العقارية، التي تبذل جهوداً مقدرة للحفاظ على المقبرة، ومنع التعديات عليها، وتسعى لاسترضاء ملاكها والتوصل معهم إلى حلولٍ تحفظ حقوقهم ولا تظلمهم، بما يحفظ المقبرة ويبقي على وجودها ويحول دون إزالتها، فإنه يجب على الجهات الفلسطينية كلها، سواء كانت سلطة أو فصائل، أن تعنى بهذه المسألة عنايةً كبيرة، وأن توليها اهتماماً خاصاً، وأن تسعى بالتعاون مع السلطات اللبنانية المسؤولة للتوصل إلى صيغة مرضية، تحفظ المقبرة وتبقيها، وتحفظ حقوق ملاك الأرض وترضيهم، ولن تعدم أمتنا العربية الخير أبداً، وسنجد فيها الكثير ممن يرغبون في المساهمة في هذه المسألة القومية، وإيجاد حلٍ يصون المقبرة ويحفظها ونصبها التذكاري.

وخلال ذلك يجب على الجهات المسؤولة، الفلسطينية واللبنانية، تشكيل هيئة وطنية مشتركة للحفاظ على المقبرة وصيانتها، والاهتمام بها ورعايتها، وتسويرها وحمايتها من أي تعدياتٍ عليها، والإشراف على نظافتها وتوفير الخدمات فيها، وإعادة تنظيمها لبيان أعداد الشهداء وجنسياتهم، وأجناسهم وأعمارهم، والعمل على تنظيم برامج خاصة بها، وتصميم لوحاتٍ جدرانية تصور المجزرة، وتوفير منشوراتٍ وإنتاج أفلامٍ تسجل فيها حقيقة ما تعرض له سكان المخيمين، وتبين المجرمين الذين نفذوا المجزرة، وتفضح كل الجهات المتورطة فيها، وتسلط الضوء على التواطؤ الدولي والصمت المخزي إزاء هذه الجريمة ومرتكبيها.

لسنا من هواة البكاء على القبور، ولا نحب الوقوف على الأطلال، ولسنا قلقين على شهدائنا في أي أرضٍ دفنوا، وتحت أي ثرى رقدوا، وأياً كانوا أجساداً اكتملوا أو أشلاءً تمزقوا، فنحن نحتسبهم شهداء عند الله عز وجل، منزلتهم عالية، ومكانتهم رفيعة، ومقامهم سامٍ، ودرجتهم عليةٌ، ونعتقد أنهم في الجنة يحبرون مع الأنبياء والصديقين ومن سبقهم من الشهداء، وأن أرواحهم في حواصل طيرٍ خضرٍ تحت عرش الرحمن، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل هم أحياءٌ عند ربهم يرزقون، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نوثق الجريمة، وأن نخلد المجزرة، وأن نبقي على قضيتهم حاضرة، فهم ما قتلوا إلا لأنهم فلسطينيون وإن كان منهم لبنانيون، وما قتلهم إلا الإسرائيليون وإن نفذ أمرهم غيرهم، فهل في الأمة من زبيرٍ حرٍ ينبري للتصدي لهذه المسألة، ويعجل في الحفاظ على هذه المقبرة الشاهد، بمالٍ يؤديه، أو برنامجٍ ينفذه، أو مشروعٍ يعده. 

 

بيروت في 30/9/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
مهدي اليستري : السلام عليك ايها السيد الزكي الطاهر الوالي الداعي الحفي اشهد انك قلت حقا ونطقت صدقا ودعوة إلى ...
الموضوع :
قصة السيد ابراهيم المجاب … ” إقرأوها “
ابو محمد : كلنا مع حرق سفارة امريكا الارهابية المجرمة قاتلة اطفال غزة والعراق وسوريا واليمن وليس فقط حرق مطاعم ...
الموضوع :
الخارجية العراقية ترد على واشنطن وتبرأ الحشد الشعبي من هجمات المطاعم
جبارعبدالزهرة العبودي : هذا التمثال يدل على خباثة النحات الذي قام بنحته ويدل ايضا على انه فاقد للحياء ومكارم الأخلاق ...
الموضوع :
استغراب نيابي وشعبي من تمثال الإصبع في بغداد: يعطي ايحاءات وليس فيه ذوق
سميرة مراد : بوركت الانامل التي سطرت هذه الكلمات ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
محمد السعداوي الأسدي ديالى السعدية : الف الف مبروك للمنتخب العراقي ...
الموضوع :
المندلاوي يبارك فوز منتخب العراق على نظيره الفيتنامي ضمن منافسات بطولة كأس اسيا تحت ٢٣ سنة
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
غريب : والله انها البكاء والعجز امام روح الكلمات يا ابا عبد الله 💔 ...
الموضوع :
قصيدة الشيخ صالح ابن العرندس في الحسين ع
أبو رغيف : بارك الله فيكم أولاد سلمان ألمحمدي وبارك بفقيه خراسان ألسيد علي ألسيستاني دام ظله وأطال الله عزوجل ...
الموضوع :
الحرس الثوري الإيراني: جميع أهداف هجومنا على إسرائيل كانت عسكرية وتم ضربها بنجاح
احمد إبراهيم : خلع الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني لم يكن الاول من نوعه في الخليج العربي فقد تم ...
الموضوع :
كيف قبلت الشيخة موزة الزواج من امير قطر حمد ال ثاني؟
فيسبوك