الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب مقامات فاطمة الزهراء في الكتاب و السنة للشيخ محمد السند: مقامات السيدة مريم عليها السلام: اذا كانت مريم عليها السلام قد فضّلها الله بكمالات تقارب كمالات الأنبياء والرسل وهي سيدة نساء عالمها فكيف بسيدة نساء العالمين من الأولين والأخرين فاطمة بنت محمد صلوات الله عليها. عن المفضل بن عمر قال: (قلت لأبي عبدالله عليه السلام أخبرني عن قول رسول الله في فاطمة: أنها سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال: تلك مريم كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين). والمراد من قوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ" (آل عمران 42) ليس مطلق العالمين إلى يوم القيامة، بل هو عالم زمانها بقرينة نظير قوله تعالى في بني اسرائيل "اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ" (البقرة 7) (البقرة 122) وقوله تعالى على لسان موسى خطاباً لبني اسرائيل "قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ" (الأعراف 140) وكذا قوله تعالى "وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ" (الجاثية 16) وقوله تعالى "وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ" (الدخان 32) فانّه ليس المراد تفضيلهم على كل الأمم وانّما المراد بها تفضيلهم على عالمين زمانهم لقوله تعالى "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران 110) وقوله تعالى "وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً " (البقرة 143) مما يعني أنّ هذه الأمة هي أفضل من بني اسرائيل مما يعني أنّ هذه الأمة وإن أريد منها بعض الأمة الاسلامية، مضافاً إلى ما سيأتي من دلالة الآيات من افضلية مقامات الزهراء عليها السلام علىمريم عليها السلام. فالمراد إذن من اصطفاء مريم على العالمين هو عوالم الأمم من العرقيات والأقوام والملل والنحل التي كانت تعيش في زمانها من شرق الأرض وغربها. ولكي نستقرأ مقامات فاطمة عليها السلام يجدر بنا أن نتعرض للاشارات القرآنية عن مقام مريم عليها السلام ليتبيّن لنا مقامات سيدة نساء العالمين، عندها فلا تكون أية غرابة فيما تعتقده الامامية من مقامات فاطمة عليها السلام وسيتبين من النصوص القرآنية النازلة فيها انّ تلك المقامات حاصلة للصديقة عليها السلام، بغض النظر عن الاولوية المتقدمة ويكون ما ورد في مريم عليها السلام ما هو إلا مبين ما قد ورد فيها عليها السلام وستكون الأولوية حاكمة في معرفة وبيان مقاماتها بعد ذلك.
وعن مريم وتحديث الملائكة لها يقول الشيخ محمد السند في كتابه: ن ما ذكرناه من الاشارة الى مصحف فاطمة عليها السلام وكيفية نزول جبرئيل عليهاليسليها بمصاب أبيها بعدما دخلها من الحزن الشديد، لم يكن ذلك إلا حالة منحالات الوحي، إلا أنه وحي غير نبوي أثبته القرآن في مواضع عديدة لرجالٍ ونساءكاملين في مقام الحجية لقوله "وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولً" (الشورى 51) ومعلوم أن ما وقع لمريم عليها السلام من وحي هو قسم أعظم من نزولجبرئيلعليه السلام وذلك لحصول القسم الأول لها مضافاً الى الثالث كما أن تقديم ذكره في الترتيب في قوله تعالى "وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً" (الشورى 51) لشرفيته على القسمين الثاني والثالث وهو الايحاء من وراء حجاب وارسال رسول يوحي باذن الله تعالى، والشاهد على حصول الأول لها قوله تعالى: "قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (آل عمران 47) وفاعل قال ههنا هو الله تعالى لأنها وجهت قولها مخاطبة الله تعالى متصلًا بالآيات السابقة في سورة آل عمران"إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ" (آل عمران 45) ففي الآيات السابقة الاشارة الى نزول الملائكة عليها وقولها لها بالبشارة. ويشهد لكون الخطاب والقول هو من الله تعالى في الآية المزبورة، أن القول لم يكن من جبرئيل كما قديتوهم اذ أن تمثّل جبرئيل لها والذي تستعرضه سورة مريم كان بعد مدة زمنية فاصلة عن نزول الملائكة بالبشارة، ويشهد لذلك أيضاً أن مريم عليها السلام أعادت تعجبها "قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا" (الشورى 20-21) من دون توجيهه الى الله تعالى، وكانت اجابة جبرئيل لها بتذكيره لجواب الله تعالى المتصل ببشارة الملائكة في سورة آل عمران. وعلى ذلك فيظهر من سورة آل عمران أن الوحي الذي حصل لمريم بُعيد الوحي بتوسط الملائكة بالبشارة، هو من الوحي بدون وساطة الرسول الملائكي ولم يكن تكليماً من وراء حجاب أي أنه من النمط الأول من أقسام الوحي المشار إليه في سورة الشورى وهو أعلى أنماط الوحي كما يدلّ عليه الترتيب الذكري، وهو لا يحصل في الغالب إلا للأنبياء المرسلين من طبقة أولي العزم وفي بعض حالاتهم. فهذه منقبة ومقام عظيم يتلوه القرآن الكريم لمريم بنت عمران. كما أن مفاد الوحي لمريم هو ابلاغها بنبوّة عيسى وبعثته بشريعة الانجيل، فكان تصديقها بكلمات الله وكتبه بتوسط الوحي الذي حصل لها، لا عبر نبي ّمرسل وهو زكريا عليه السلام أو يحيى عليه السلام وقبل تولّد ابنها النبي عيسى عليه السلام، فكانت قد أوكل إليها مسؤولية إبلاغ نبوة عيسى عليه السلام الى الملأ من قومها، وهذا نظير ما ورد في الصديقة الزهراء عليها السلام من نزول اللوح الاخضر عليها المتضمن لأسماء الأئمة عليهم السلام وما ورد من أن مصحفها عليها السلام متضمن للوصية بالإمامة في ذريتها. كما أنها كانت محدثة من قبل الملائكة كما كانت مريم مع أنها ليست بنبي، وقد روى الصدوق فيعلل الشرائع عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: (سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: انّماسميت فاطمة عليها السلام محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء تناديها كما تنادي مريمبنت عمران فتقول: يا فاطمة انّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين يافاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها قالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدةنساء عالمها وان الله عزّوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين).
جاء في کتاب مقامات فاطمة الزهراء في الكتاب و السنة للشيخ محمد السند: على أن مريم أوحي اليها وكلّمتها الملائكة ولم تكن نبيّاً ولا رسولًا، فالتحديث لم يقتصر اذن على نبويّة الموحى اليه، بل يكفي ذلك أن يكون من حجج الله تعالى كما هو الحال في مريم عليها السلام اذ كلّمتها الملائكة وحدّثتها بالبشارة، وقد دلّت مجموعة آيات على تحديثها منها: قوله تعالى: "وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا *، قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا" (مريم 16-21). محاورة بين مريم وبين الوحي تُبيّن الاصطفاء الالهي المقدس الذي حضيت به مريم عليها السلام، فتمثّل جبرئيل بشراً سوياً ليُلقي لها البشارة من الله تعالى ويكشف ذلك عن الدرجة التي بلغتها مريم كحجة من حجج الله تعالى، اذ التمثّل هذا نظير التمثّل الذي حدث لابراهيم عليه السلام عند اتيانه البشارة كما في قوله تعالى: "وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى" (الشورى 70) فكان البشارتين كانتا في سياق واحد، وهو منح ابراهيم اسحاق ويعقوب نبيين، كما منحت مريم عليها السلام عيسى نبياً مرسلًا، فالتشابه في مهمتي نبي اللهابراهيم لتلقيه البشرى في اسحاق ويعقوب كمهمة مريم في تلقيها البشارة الالهية في عيسى عليه السلام، وهذه البشارة الالهية لها دلالاتها الخطيرة في مهام المبشر فضلًا عن المبشَّر به.
ويستطرد الشيخ السند عن مريم عليها السلام قائلا: على أن حالتي التمثّل لدى نبي الله إبراهيم عليه السلام هي نفسها حالة التمثل التي حصلت لمريم عليها السلام، والتمثل لم يكن تغيّراً في المتمثل حقيقة، بل هو تغير في ظرف الادراك، فلا تغير اذن في الخارج ولا في نفس الماهية الملكية للوحي. ومن هنا سيتبيّن عِظَم مسؤولية مريم عليها السلام من كونها في مصافي الانبياء، وممن هداهم الله واجتباهم من غير النبيين وهي مريم عليها السلام التي تحتل مقام الحجية لله تعالى بما يقارب حجية الأنبياء إلا في خصوصيات النبوّة والرسالة. ولم تقتصر حالة التكليم للملائكة من قبل مريم، بل تترقى الى الوحي المباشر مع الله تعالى مع أن وحي الله تعالى كان قبل تمثّل جبرئيل لها. قال تعالى حكاية عن مريم: "قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (آل عمران 47). فالوحي الالهي المباشر الذي حظيت به مريم عليها السلام يكشف عن خطورة المنزلة التي تحتلها مريم عليها السلام، اذ الوحي الالهي المباشر لا يختص به إلا بعض الأنبياء وفي أوقات خاصّة، وهذا نظير ما حدث لزكرياعليه السلام حين كلّمته الملائكة وبشرته بيحيى ومن ثم كان وحي الله تعالى له مباشرة يكشف عن حقيقة مهمة، وهي تشابه حالتيزكريا ومريم في تلقي البشارة وتكليم الملائكة لهما ومن ثم تكليمها الله تعالى، فحالتا الاصطفاء والبشارة كما حدثت لنبي الله زكريا حدثت مثلها وفي ظرف زماني متقارب لحجة الله مريم عليها السلام، دليل على التقارب بين مهمتي المقامين، أي مقامالنبوّة لزكريا، ومقام الحجية لمريم، والآيات التالية تتكفّل ببيان المقام، قال تعالى: "هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ * فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ" (آل عمران 38-40). فتوارد النظائر في الحالتين دليل على وجود ترابط ظاهر أو خفي بين حالتينبوّة زكريّا وحجية مريم عليها السلام، والنظائر الواردة في الآية للحالتين كما يلي: اتيان البشارة لزكريا وتكليمه الملائكة أثناء عبادته لله تعالى فقال تعالى: "فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ" (آل عمران 40).
https://telegram.me/buratha