محمد جواد الدمستاني
في الإنفاق و العطاء و التنفير عن الحِرص، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام «يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ » – حكمة 192 – نهج البلاغة
القُوتُ هو ما يأكله الإنسان ويعيش به، وعلى الإنسان أن يكسب ما يكفيه لقُوته، و ما زاد عن قوته و حاجته فهو خازن فيه لغيره، و غيره في حكمة أخرى هو الوارث و الحادث، أو الورثة و الحوادث، «لِكُلِّ امْرِئٍ فِي مَالِهِ شَرِيكَانِ، الْوَارِثُ وَ الْحَوَادِثُ»./ نهج البلاغة - حكمة 335 .
فما يأكله الإنسان فهو نصيبه، أما الباقي من المال و العقار و الملبس و المسكن، و غيرها من متاع الدُّنيا فستكون لغيره، فهي إما أن يرثها صالحون أو طالحون، يعملون فيها بطاعة الله أو معصيته وهم الورثة بأنواعهم، الأقرب فالأقرب من طبقات الإرث ممن يرثونه بعد الموت.
أو الحوادث التي تقابل الإنسان في حياته، و يصرف منها ما يجمعه لغيرها، و هي مطلقة تشمل ما يجدّ و يحدث من وقائع تصرف المال كالأمراض و علاجاتها و مفاجئات الخسائر، و مع التوسع في المعنى تشمل الكوارث الطبيعية و حوادث السيارات، و السرقات، و خسائر الصفقات التجارية و غيرها من الأضرار المرتبطة بالجانب المالي و التجاري، و هذه تكون في حياة المدّخر أو المخزّن غالبا.
والمعنى أنّ اكتساب الزيادة على القوت، و المئونة بقدر الحاجة لنفسه و متعلقيه، و ادّخاره و تخزينه غير نافع بل مضرّ للمدّخر، و قريبا سيفارقه، فهو إذن يشبه الخازن لغيره.
و لا يعني ذلك التوقف و الاقتصار على الكسب و العمل بمجرّد تحصيل القُوت، بل يعني عدم ادّخار المال و جمعه و منعه من ذوي الحقوق و المستحقين، بل ينبغي صرفه في مواضعه الصحيحة ، سبيل مصالح الإنسان و الدّين، فقد كان عليه السلام من أهل الكسب و العمل و الزراعة و لكن يصرف ما حصل في الإعانات و تحرير الرقاب و مطلق أعمال الخير، و يجعل عيونه و إنتاجه وقفا على سبل الخير كما هو مكتوب في سيرته عليه السلام، و منها تسمية «آبار علي» على ميقات أهل المدينة، حيث نقلت المصادر التاريخية أنّه عليه السلام قام بحفر الآبار في هذه المنطقة ليستفيد منها الحجاج و المعتمرين لبيت الله الحرام.
و منه ما ذكره الشيخ المفيد في الاختصاص من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان «يحمل الوسق فيه ثلاث مائة ألف نواة، فيقال له: ما هذا ؟ فيقول: ثلاث مائة ألف نخلة إن شاء الله، فيغرس النوى كلها فلا تذهب منه نواة».
فهذه أمثلة في العمل زائدة عن القوت و الحاجة و قد عملها أمير المؤمنين لفائدة المسلمين عامة و مصالحهم.
و الحكمة (ما كسبت فوق قوتك ..) بها تنفير عن البخل بالزائد من المال عن قدر حاجة أو حوائج الإنسان، و دعوة إلى عدم تخزينه، بل إنفاقه على النفس و الأهل، و اخراج الحقوق وقضاء الحوائج، و غيرها من موارده.
و في الحكمة موعظة للإنسان أنّه سيترك الأموال و متاع الحياة الدنيا الأخرى للوارث يتنعم بها في ملذاته، فكأنّ عدم الإنفاق هو تخزين الأموال للوارث، بينما هو أولى بهذا الإنفاق.
و لأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المقام عدد من الروايات، منها ما وصّى به ابنه الإمام الحسن عليه السلام ألا يترك خلفه شيئا، لا لأهل الطاعة، و لا لغيرهم، قال عليه السلام: «لَا تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ، إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ، وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ».نهج البلاغة –حكمة 416
و النّاس أجناس و أنواع، و منهم من يجمع الأموال و يبرر جمعها بمستقبل الأولاد، بينما هو حرص تدفعه النّفس، و لا يوجد ضمان حقيقي في هذه الدّنيا لا للنفس و لا للأولاد، و لا يُعلم من يموت قبل الآخر، و أين؟ و متى؟ و على الإنسان أن ينتبه لتخليص نفسه أولا ، « قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ..». سورة التحريم-6
و في نهج البلاغة أيضا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في التنفير عن البُخل و الحِرص و قد مرّ بمزبلة فقال «هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ»، و روي أنّه قال «هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِ».نهج البلاغة – حكمة-195.
و في النهج أيضا «طُوبَى لِمَنْ .. أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ». حكمة 132، طوبى، هنيئاً، سعادةً، سروراً لمن أنفق الزائد من ماله، و أمسك و منع فضول الكلام، فإنّ كثير من النّاس يعمل بالعكس: لسانهم فاضل و زائد و طائش، و يدهم ممسوكة، و مقبوضة.
و من كلماته عليه السلام في هذا قوله « إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَ اللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ». نهج البلاغة - حكمة 328
و كذلك «أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَ يَبْنُونَ مَشِيداً، وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً، كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَ مَا جَمَعُوا بُوراً، وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ». نهج البلاغة – خطبة 132
و روي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و هو يقرأ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قوله «يقولُ ابنُ آدَمَ: مالي مالي! وهَل لَكَ يَا بنَ آدَمَ مِن مالِكَ إِلّا ما أَكَلتَ فَأَفنَيتَ، أَو لَبِستَ فَأَبلَيتَ، أَو تَصَدَّقتَ فَأَمضَيتَ!؟»، الأمالي (للطوسی)،ج1ص519، أي أنّ ما يضمنه و يصدق عليه أنّه ماله أو أمواله فهو الأكل و الطعام الذي يأكله و يفنيه، و اللباس الذي يلبسه فيبلى و لا قابلية للاستفادة منه، و الصدقات التي يمضيها فإنّها مخزونة له في الآخرة ثوابا و أجرا و لها آثارها التكوينية في الدّنيا، أما غير هذا من متاع الدّنيا كله فإنّه سينتقل للآخرين فلا يصدق عليه أنّه ماله.
و في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام لما سئل «مَا بَالُ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كَانُوا يَمْشُونَ عَلَى اَلْمَاءِ، وَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ «إِنَّ أَصْحَابَ عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كُفُوا اَلْمَعَاشَ وَ هَؤُلاَءِ اُبْتُلُوا بِالْمَعَاشِ» .تهذيب الأحكام ج6ص327
https://telegram.me/buratha