الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في معاني القرآن الكريم: موج الموج في البحر: ما يعلو من غوارب الماء. قال تعالى: ﴿في موج كالجبال﴾ (هود 42)، ﴿يغشاه موج من فوقه موج﴾ (النور 40) وماج كذا يموج، وتموج تموجا: اضطرب اضطراب الموج. قال تعالى: ﴿وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض﴾ (الكهف 99). تفسير الميسر: قال الله تعالى عن الموج "وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ" ﴿لقمان 32﴾ موج اسم، غَشِيهم موْجٌ: علاهم و غطّاهم. وإذا ركب المشركون السفن وعَلَتْهم الأمواج مِن حولهم كالسحب والجبال، أصابهم الخوف والذعر من الغرق ففزعوا إلى الله، وأخلصوا دعاءهم له، فلما نجاهم إلى البر فمنهم متوسط لم يقم بشكر الله على وجه الكمال، ومنهم كافر بنعمة الله جاحد لها، وما يكفر بآياتنا وحججنا الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا إلا كل غدَّار ناقض للعهد، جحود لنعم الله عليه.
عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قال الله تعالى عن الموج "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ" ﴿هود 42﴾ معناه: أن السفينة كانت تجري بنوح ومن معه على الماء في أمواج كالجبال في عظمها وارتفاعها ودل بتشبيهها بالجبال على أن ذلك لم يكن موجا واحدا بل كان كثيرا وروي عن الحسن إن الماء ارتفع فوق كل شيء وفوق كل جبل ثلاثين ذراعا وقال غيره خمسة عشر ذراعا وقيل: أن سفينة نوح سارت لعشر مضين من رجب فسارت ستة أشهر حتى طافت الأرض كلها لا تستقر في موضع حتى أتت الحرم فطافت بموضع الكعبة أسبوعا وكان الله سبحانه رفع البيت إلى السماء ثم سارت بهم حتى انتهت إلى الجودي وهو جبل بأرض الموصل فاستقرت عليه اليوم العاشر من المحرم وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام أن نوحا ركب السفينة في أول يوم من رجب فصام وأمر من معه أن يصوموا ذلك اليوم وقال من صام ذلك اليوم تباعدت عنه النار مسيرة سنة. قوله عز وجل "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" ﴿النور 40﴾ "أو كظلمات" أي: أو أفعالهم مثل ظلمات "في بحر لجي" أي. عظيم اللجة لا يرى ساحله. وقيل: هو العميق الذي يبعد عمقه، عن ابن عباس. "يغشاه موج" أي يعلو ذلك البحر اللجي موج. "من فوقه موج" أي: فوق ذلك الموج موج "من فوقه سحاب" أي: من فوق الموج سحاب "ظلمات بعضها فوق بعض" يعني ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، والمعنى: إن الكافر يعمل في حيرة، ولا يهتدي لرشده، فهو من جهله وحيرته، كمن هو في هذه الظلمات، لأنه من عمله وكلامه واعتقاده، متقلب في ظلمات. وروي عن أبي أنه قال. إن الكافر يتقلب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمة، وهي النار (إذا أخرج يده لم يكد يراها) اختلف في معناه فقيل: لا يراها، ولا يقارب رؤيتها، فهو نفي للرؤية، ونفي مقاربة الرؤية، لأن دون هذه الظلمة لا يرى فيها، عن الحسن، وأكثر المفسرين قوله سبحانه "وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ" ﴿لقمان 32﴾ "وإذا غشيهم" أي إذا غشي أصحاب السفن الراكبي البحر "موج" وهو هيجان البحر "كالظلل" في ارتفاعه وتغطيته ما تحته شبه الموج بالسحاب الذي يركب بعضه على بعض عن قتادة وقيل يريد كالجبال عن مقاتل "دعوا الله مخلصين له الدين" أي إن خافوا الغرق والهلاك فأخلصوا في الدعاء لله في هذه الحال "فلما نجاهم" أي خلصهم "إلى البر" وسلمهم من هول البحر "فمنهم مقتصد" أي عدل في الوفاء في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له وقيل إن هذا كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل وهو إخلاصهم الدعاء في البحر.
وعن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قال الله تعالى عن اركب "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ" ﴿هود 42﴾ المعزل اسم مكان من العزل وقد عزل ابنه نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم، ولذلك قال: "ونادى نوح ابنه" ولم يقل: وقال نوح لابنه. والمعنى: ونادى نوح ابنه وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم وقال في ندائه: يا بني بالتصغير والإضافة دلالة على الإشفاق والرحمة اركب معنا السفينة ولا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة، ولم يقل عليه السلام: ولا تكن من الكافرين لأنه لم يكن يعلم نفاقه وأنه غير مؤمن إلا باللفظ، ولذلك دعاه إلى الركوب. وعن تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله سبحانه "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ" ﴿هود 42﴾ لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أباً فحسب، بل كان مربيّاً لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن للأسف كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه. لذلك فإِنّ هذا الولد اللجوج الاحمق، وظنّاً منه أن ينجومن غضب الله أجاب والده نوحاً و "قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ" ولكنّ نوحاً لم ييأس مرّة أُخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و "قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ" ولا ينجومن هذا الغرق إلاّ من شمله لطف الله "إلاّ من رحم".
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله سبحانه عن تركبون "وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ" ﴿الزخرف 12﴾ إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر، وكراماته التي منّ بها عليهم، وهي لا تلاحظ في الأنواع الأُخرى من الموجودات، وذلك أنّ الله سبحانه قد حمل الإِنسان على المراكب التي تعينه في رحلاته البحريّة والصحراويّة، كما جاء ذلك في الآية (70) من سورة الإِسراء: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " (الإسراء 70). والحقّ أنّ وجود هذه المراكب يضاعف أنشطة الإِنسان ويوسّع حياته عدّة أضعاف، وحتّى الوسائل السريعة السير التي نراها اليوم، والتي صنعت بالإِستفادة من مختلف خواصّ الموجودات، ووضعت تحت تصرّف الإِنسان، فإنّها من ألطاف الله الظاهرة، تلك الوسائل التي غيّرت وجه حياته، ومنحت كلّ شيء السرعة، وأهدت له كلّ أنواع الراحة. وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول: "لتستووا على ظهوره ثمّ تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحانه الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين". إنّ جملة: (لتستووا على ظهوره) إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد خلق هذه المراكب على هيئة تستطيعون معها ركوبها بصورة جيّدة، وتصلون إلى مقاصدكم براحة ويسر. لقد أوضحت هذه الآية هدفين لخلق هذه المراكب البحريّة والبريّة، من الفلك والأنعام، أحدهما: ذكر نعم الله سبحانه حين الإِستواء على ظهورها، والآخر: تنزيه الله سبحانه الذي سخّرها للإنسان، فقد جعل الفلك على هيئة تقدر أن تشقّ صدر الأمواج وتسير نحو المقصد، وجعل الدواب والأنعام خاضعة لأمر الإِنسان ومنقادة لإرادته. (مقرنين) من مادة (إقران)، أي امتلاك القدرة على شيء، وقال بعض أرباب اللغة: إنّه يعني مسك الشيء وحفظه، وفي الأصل بمعنى وقوع الشيء قريناً لشيء آخر، ولازم ذلك القدرة على حفظه. بناء على هذا، فإنّ معنى جملة "وما كنّا له مقرنين" هو أنّه لولم يكن لطف الله وعنايته لما كان بإمكاننا السيطرة على هذه المراكب وحفظها، ولتحطمت بفعل الرياح المخالفة لحركة السفن، وكذلك الحيوانات القويّة التي تفوق قوّتها قوّة الإِنسان أضعافاً، ما كان الإِنسان ليستطيع أن يقترب منها مطلقاً لولا روح التسليم التي تحكمها، ولذلك حين يغضب أحد هذه الحيوانات ويفقد روح التسليم، فإنّه سيتحوّل إلى موجود خطر لا يقوى عدّة أشخاص على مقابلته، في حين أن من الممكن في حالة سكونها ودعتها أن تربط عشرات، بل مئات منها بحبل وزمام، ويسلّم بيد صبي ليذهب بها حيث يشاء، وكأنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن للإنسان نعمة الحالة الطبيعيّة للحيوانات من خلال بيان الحالة الإِستثنائيّة. وتذكر آخر آية ـ من هذه الآيات ـ قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب، إذ يقولون: "وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون". هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد، لأنّ الإِنتباه إلى الخالق والمبدأ، يلفت نظر الإِنسان نحو المعاد دائماً. وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها، بل يجب أن تكونوا دائماً ذاكرين للآخرة غير ناسين لها، لأنّ حالات الغرور تشتد وتتعمّق في مثل هذه الموارد خاصّة، والأشخاص الذين يتّخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبّر على الآخرين ليسوا بالقليلين. ومن جهة ثالثة، فإنّ الإِستواء على المركب والإِنتقال من مكان إلى آخر يذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر. نعم. فنحن أخيراً ننقلب إلى الله سبحانه.
https://telegram.me/buratha