محمد جواد الدمستاني
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله ربّ العالمين و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.
يناسب على ضوء تجربة زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، و قراءة زيارات الحسين عليه السلام في مواطنها و مناسباتها ذكر مجموعة من القيّم و المباديء الدينية الاسلامية التي تتجلى في زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام، حيث تشاهد حركات الزائرين و المضيّفين في المواكب الممتدة مئات الكيلومترات، والسلم و السلام و الاطمئنان و الاحترام ، و القيّم الأخلاقية من نبل و اجلال و احتفاء و استضافة و ترحيب ، وكذا تسامح و صفح و تجاوز عمّا يقع من أخطاء، و الاجتماعية من إحسان و إنفاق و تكافل، و قيّم الأخوة و المودة، و التعاون، و الكرم و الضيافة ، و خدمة المؤمنين إلى غيرها من قيّم الدين الأخرى.
و أحد القيّم الدينية التي ترسخها زيارة الأربعين و التي ينبغي أن ترسخها أكثر تلك الزيارة و تعززها و تثبتها أو تزيد في تثبيتها هو السلم و الحرب في زيارة الحسين عليه السلام.
وهي من أهم القيّم الدينية التي ذكرها أهل البيت و كررها النبي و أهل بيته عليهم السلام عدة مرات، و في عدة مناسبات، السلم و الحرب و الولاء و العَدَاء بمركزية و محورية الحسين و أهل البيت عليهم السلام.
السلم و السلام و الأمان لمن هو في سلام مع آل النبي صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و مع الحسين و أولاد الحسين و أنصار الحسين و شيعة الحسين، و الحرب و القتال و العراك مع من هو في حرب معهم.
ليس صدفة و لا اتفاقا طارئا أن يكرر أهل البيت عليهم السلام جملة «سلمٌ لمن سالمكم، و حربٌ لمن حاربكم»، بل هي استراتيجية و خطة محكمة يُريد عليهم السلام من شيعتهم العمل بها و الاهتمام بموضوعها وجعلها منهجا يتبعونه.
وقد وردت هذه الجملة في زيارة عاشوراء في موضعين :
الأول « يا أبا عبد الله إنّي سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة ..»( ).
والثاني « إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم، و ولى لمن والاكم و عدو لمن عاداكم، فأسأل الله الذي أكرمني بمعرفتكم و معرفة أوليائكم و رزقني البراءة من أعدائكم أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة ..» ( ).
و وردت في زيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام:
« موال لكم و لأوليائكم، مبغض لأعدائكم ومعاد لهم، سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم،..»( ).
كما وردت في زيارة الإمام الكاظم عليه السلام : عن أبي الحسن عليه السلام : وتقول عند قبر أبي الحسن عليه السلام ببغداد :
«أُشهد الله أني سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم ، مؤمنٌ بسركم وعلانيتكم ، مفوّضٌ في ذلك كله إليكم ،..»( ).
و يروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لأمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليه السلام: «إنّي سلم لمن سالمكم ، وحرب لمن حاربكم »( ).
و تأكد هذا المعنى بألفاظ متعددة في الروايات ، مثل: قول رسول الله صلى الله عليه وآله في أمير المؤمنين عليه السلام:
« يا علي حربك حربي ، وسلمك سلمي »( ).
«حرب علي حرب الله ، وسلم علي سلم الله »( ).
« ولي علي ولي الله ، وعدو علي عدو الله »( ).
و العبارة واضحة التقابل بين السلم والحرب، و أنّ الإنسان المؤمن الموالي لأهل البيت عليهم السلام ينبغي ان يكون سلما لمن سالم محمدا وآل محمد ، و أن يكون حرباً لمن حاربهم، و هذا في حالتي السلم و الحرب.
أما في حالة الحرب فالأمر بيّن و واضح و بارز فيجب الوقوف في صفوف آل محمد والحرب ضد أعدائهم، و السلم مع من سالمهم، كأن يكون في عصر أمير المؤمنين فيقف معه في المواقف كلها، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله، و في معارك الجمل و النهروان و صفين و بقية معاركه الصغيرة، أو في عصر الحسين عليه السلام فيقف معه في كربلاء ضد عدوه، كما كان أصحاب أمير المؤمنين و أصحاب الحسين عليهما السلام في الوقوف معهما و الثبات و الشهادة.
و في حالة السلم أي الحالة العادية يعني الالتفاف حول رأية آل محمد عليهم السلام، و مناصريهم، والأخذ عنهم و مسالمتهم و التسليم لهم، و التعاون و التضامن معهم، و التهيؤ و الاستعداد لأمرهم و ندائهم.
و كذلك يعني في حالة السلم التبرئ من أعدائهم و إنكارهم بمطلق الإنكار القلبي و اللساني و حتى الجسدي، و الحذر من أعدائهم و أتباعهم، و البصيرة و الادراك في ما يُخطط له أعداؤهم و أعداء شيعتهم.
وهذه السلمية و الحرب مع المناصرين و المعادين، مطلقة و تعني في حالة السلم الظاهري و الحرب جميع الأصعدة الاجتماعية و السياسية و الثقافية و العسكرية و غيرها.
وعليه فترتيب و تنظيم الولاء و العداء بمحورية و قيّم الحسين و أهل البيت عليهم السلام مطلق للموالي في كل مواقعه و مواقفه زائرا كان صاحب الموقف ، أو صاحب موكب، أو مقيم مجلس، أو خادما في العتبة ، أو إعلاميا أو سياسيا أو غيرها.
و هذا التنظيم للولاء و العداء يرشد إلى الالتزام بقيّم و مبادئ الثورة الحسينية و يعني وضع قاعدة أساسية مركزية و استراتيجية في العلاقات و الصداقات و الولاءات و العداءات في كل الأزمنة و الأمكنة عنوانها السلم و الولاء لمن والى الحسين و آل محمد عليهم السلام ، و العداء و الحرب لمن عادى الحسين و آل محمد عليهم السلام ، و تعني رفض الولاء و العداء بالأهواء و المصالح الشخصية أو الفئوية أو غيرها.
وهي إرادة أهل البيت عليهم السلام بتأكيد وتكرار و أمر لشيعتهم حينما يقومون بزيارة أهل البيت عليهم السلام و الحسين و يقفون عند قبورهم في معاهدتهم بالالتزام بسلم من سالمهم و حرب من حاربهم و الولاء لمن والاهم و العداء لمن عاداهم، و حينما يزورون دون هذه المعاني فليست هي الزيارة التي أرادها أهل البيت عليهم السلام، بل تنقصها روح الزيارة التي هي الأصل.
و الروح هو تنظيم السلم و الحرب و الولاء و العداء بمحورية الحسين و أهل البيت عليهم السلام، وجعله هو المنهج و المعيار و ليس شيئا آخرا، و ليس الهوى النفسي.
و لعل رواية الإمام الصادق عليه السلام تشير إلى الولاء السياسي و الولاية السياسية لهم عليهم السلام فيما روي في تفسير العياشي عنه عليه السلام « يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان، قال : أتدري ما السلم؟ قال : قلت أنت أعلم ، قال : ولاية علي والأئمة الأوصياء من بعده ، قال: وخطوات الشيطان والله ولاية فلان وفلان»( ).
و أحد الإشارات المهمة في زيارة عاشوراء هي الاستراتيجية و الاستمرارية في الولاء و العداء على أساس أهل البيت عليهم السلام، بمعنى أنّ الأمر يمثل حالة استراتيجية دائمة و ليس تكتيك مرحلي قابل للتغيير من حال إلى حال ومن زمن إلى زمن نتيجة لاختلاف الظروف والأحوال، ولذا كان الخطاب في الزيارة « يا أبا عبد الله إنّي سلم لمن سالمكم و حرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة»( ) أي أبدا و دائما، فالمسالمة مع المسالم، والمحاربة مع المحارب مستمرتان، و يعني امتداد حالة السلم مع الموالين و حالة الحرب مع المعادين إلى يوم القيامة .
وهذه الحالة من السلم و الحرب بمحوريتهم عليهم السلام مسؤولية عظمى للزائر و الموالي لهم عليهم السلام، و لها كلفة في الحياة الدنيا قد تصل في أعلى مراتبها و مستوياتها إلى الشهادة، وفي أعظم الحالات خسائر في متاع الحياة الدنيا و زخرفها، و لكنها أيضا نعمة عظمى لا يلقاها إلا ذو إيمان قوي و عظيم و إن لم يستشهد معهم، فالأهم هو اتباع قيّمهم و مبادئهم التي هي مبادئ الدين الحقيقية.
و النعمة العظمى هي في الكينونة معهم، و الشفاعة عندهم، و الحشر معهم، لذلك هي عند أصحاب البصيرة و الوعي، فكانت عند جابر بن عبد الله الأنصاري و لم تكن عند آخرين كثيرين، و لعل ذلك جعل زيارة جابر في الأربعين مخلدة في التاريخ ، و روايته مصداق واضح وجلي ، و حينما أقبل لزيارة الحسين قال « والذي بعث محمدا بالحق لقد شاركنا كم فيما دخلتم فيه»( )، وحينما يستفهم متعجبا صاحبه في الزيارة عطية العوفي فيقول له : « وكيف ولم نهبط واديا ، ولم نعل جبلا ، ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم، و أوتمت أولادهم وأرملت الأزواج؟»( )، يجيبه جابر بيقين فيقول سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله يقول : «من أحبّ قوما حشر معهم ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه»( ).
و في تاريخ الإمام الباقر عليه السلام المروية عنه زيارة عاشوراء قصة تبيّن الولاء و العَدَاء، فقد روى الكليني في الكافي عن الحكم بن عتيبة قال :
بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص بأهله ، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عَنَزَة( ) له، حتى وقف على باب البيت فقال : السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته ، ثم سكت فقال أبو جعفر عليه السلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال : السلام عليكم ، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعا و ردوا عليه السلام.
ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر عليه السلام ثم قال : يا ابن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك ، فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم ، و والله ما أحبكم و أحب من يحبكم لطمع في دنيا ، و إني لأبغض عدوكم و أبرأ منه ، و والله ما أبغضه و أبرأ منه لوتر كان بيني وبينه ، و الله إني لأحل حلالكم وأحرم حرامكم، أنتظر أمركم ، فهل ترجو لي جعلني الله فداك ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام إِلَيَّ إِلَيَّ حتى أقعده إلى جنبه .
ثم قال : أيها الشيخ إنّ أبي علي بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه فقال له أبي عليه السلام: إن تَمُتْ ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى عليّ والحسن والحسين ، وعليّ بن الحسين ، ويثلج قلبك ، و يبرد فؤادك ، وتقر عينك ، و تستقبل بالروح و الريحان مع الكرام الكاتبين ، لو قد بلغت نفسك ههنا – وأهوى بيده إلى حلقه - وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى .
قال الشيخ : قلت : كيف يا أبا جعفر ؟
فأعاد عليه الكلام .
فقال الشيخ : الله أكبر يا أبا جعفر إن أنا مت أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله و على علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين ، و تقر عيني ، و يثلج قلبي ، و يبرد فؤادي ، و استقبل بالروح و الريحان مع الكرام الكاتبين ، لو قد بلغت نفسي ههنا ، وإن أعش أرى ما يقر الله به عيني ، فأكون معكم في السنام الأعلى ؟
ثم أقبل الشيخ ينتحب ، ينشج ها ها ها حتى لصق بالأرض.
وأقبل أهل البيت ينتحبون وينشجون، لما يرون من حال الشيخ ، و أقبل أبو جعفر عليه السلام يمسح بإصبعه الدموع من حماليق عينيه وينفضها .
ثم رفع الشيخ رأسه فقال لأبي جعفر عليه السلام : يا ابن رسول الله ناولني يدك جعلني الله فداك، فناوله يده فقبلها ، و وضعها على عينيه وخده ، ثم حسر عن بطنه وصدره ، فوضع يده على بطنه وصدره ، ثم قام ، فقال : السلام عليكم.
و أقبل أبو جعفر عليه السلام ، ينظر في قفاه وهو مدبر ، ثم أقبل بوجهه على القوم فقال : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظر إلى هذا ، فقال الحكم بن عتيبة : لم أر مأتما قط يشبه ذلك المجلس( ).
ومحل الشاهد في كلام الشيخ الموالي « فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم ، و والله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا ، وإني لأبغض عدوكم و أبرأ منه ، و والله ما أبغضه و أبرأ منه لوتر كان بيني وبينه ، والله إني لأحل حلالكم وأحرم حرامكم».
و في ترحيب الإمام الباقر عليه السلام له و تعظيمه حتى طلب منه القرب و أجلسه إلى جنبه.
و في الرواية بيان واضح لمحبة أهل البيت لشيعتهم عليهم السلام الذين يطبقون توصياتهم و يعملون طبق تعاليمهم ، ومعاملتهم بالتعظيم و التوقير و الاجلال كما فعل الإمام مع الشيخ.
محمد جواد الدمستاني
https://telegram.me/buratha