الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن كلمة يوزع ومشتقاتها "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" ﴿النمل 17﴾ يُوزَعُونَ: يُوزَعُ فعل، ونَ ضمير، يوزعون: يُكفون و يُحبسون، أو يُحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، أو حتى يدخلوا النار، أو توقف أوائلهم لتلحقَهُم أواخرهم ثم يساقون جميعاً، أو يُدفعون و يُساقون، وجُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم، فهم على كثرتهم لم يكونوا مهمَلين، بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على آخرهم؛ كي يقفوا جميعًا منتظمين، و "فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" ﴿النمل 19﴾ أَوْزِعْنِي: أَوْزِعْ: فعل، نِي ضمير، أوزعني: ألهمني، أو وَفِّقني، أو رَغِّبني، أو اجعلني، حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يهلكنَّكم سليمان وجنوده، وهم لا يعلمون بذلك، فتبسم ضاحكًا من قول هذه النملة لفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل، واستشعر نعمة الله عليه، فتوجَّه إليه داعيًا: ربِّ ألْهِمْني، ووفقني، أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ، وأن أعمل عملا صالحًا ترضاه مني، وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين الذين ارتضيت أعمالهم، و "وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ" ﴿النمل 83﴾ فهم يوزعون: يُوقف أوائلُهم لتلحقهم أواخرهم ثمّ يُساقون جميعا، ويوم نجمع يوم الحشر من كل أمة جماعة، ممن يكذب بأدلتنا وحججنا، يُحْبَس أولهم على آخرهم؛ ليجتمعوا كلهم، ثم يساقون إلى الحساب، و "وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" ﴿فصلت 19﴾ فَهُمْ يُوزَعُون: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم، ويوم يُحشر أعداء الله إلى نار جهنم، تَرُدُّ زبانية العذاب أولَهم على آخرهم، حتى إذا ما جاؤوا النار، وأنكروا جرائمهم شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا من الذنوب والآثام، و "َبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ" ﴿الأحقاف 15﴾ ربّي أوزعني:ألهمني ووفقني و رغّبني، ووصينا الإنسان أن يحسن في صحبته لوالديه بِرًّا بهما في حياتهما وبعد مماتهما، فقد حملته أمه جنينًا في بطنها على مشقة وتعب، وولدته على مشقة وتعب أيضًا، ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا، وفي ذكر هذه المشاق التي تتحملها الأم دون الأب، دليل على أن حقها على ولدها أعظم من حق الأب، حتى إذا بلغ هذا الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية، وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ، واجعلني أعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك من ذنوبي، وإني من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
وردت في القرآن الكريم كلمة يوزع ومشتقاتها: يُوزَعُونَ، أَوْزِعْنِي. جاء في معاني القرآن الكريم: وزع يقال: وزعته عن كذا: كففته عنه. قال تعالى: "وحشر لسليمان" إلى قوله: "فهم يوزعون" (النمل 17) الآية: "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون" (النمل 17) فقوله: "يوزعون" (النمل 17) إشارة إلى أنهم مع كثرتهم وتفاوتهم لم يكونوا مهملين ومبعدين، كما يكون الجيش الكثير المتأذى بمعرتهم بل كانوا مسوسين ومقموعين. وقيل في قوله: "يوزعون" أي: حبس أولهم على آخرهم، وقوله: "ويوم يحشر" إلى قوله: "فهم يوزعون" (فصلت 19) فهذا وزع على سبيل العقوبة، كقوله: "ولهم مقامع من حديد" (الحج 21) وقيل: لا بد للسلطان من وزعة (الفائق 3/160، والبصائر 5/205)، وقيل: الوزوع الولوع بالشيء (انظر العين 2/207). يقال: أوزع الله فلانا: إذا ألهمه الشكر، وقيل: هو من أوزع بالشيء: إذا أولع به، كأن الله تعالى يوزعه بشكره، ورجل وزوع، وقوله: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك" (النمل 19) قيل: معناه: ألهمني (انظر العين 2/207)، وتحقيقه: أولعني ذلك، واجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران. استعمالا يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه وليست له من قبل نفسه ولازمه ظهور العبودية والمملوكية من هذا الإنسان في قوله وفعله جميعا.
عن تفسير غريب القرآن لفخر الدين الطريحي النجفي: (وزع) "أوزعني" (النمل 19) (الاحقاف 15) أي إلهمني، يقال: فلان موزع بكذا، ومولع بكذا، ومغري به، و "يوزعون" (فصلت 19) يحبسون وفي التفسير: يحبس أولهم على آخرهم حتى يدخلوا النار.
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي: وقوله "قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ" (الاحقاف 15) الإيزاع الإلهام، وهذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله "وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها" (الشمس 8)، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث والدعوة الباطنية إلى فعل الخير وشكر النعمة وبالجملة العمل الصالح. وقد أطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعم النعم الظاهرية كالحياة والرزق والشعور والإرادة، والباطنية كالإيمان بالله والإسلام والخشوع له والتوكل عليه والتفويض إليه ففي قوله "رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ" (الاحقاف 15) إلخ، سؤال أن يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولا وفعلا: أما قولا فظاهر، وأما فعلا فباستعمال هذه النعم. قوله تعالى "وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" (فصلت 19) الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. كذا قال الراغب، و "يُوزَعُونَ" من الوزع وهو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا. قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال والحساب، وجعل النار غاية لحشرهم لأن عاقبتهم إليها، والدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار. وقيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها ومن الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف ومرة على شفير جهنم وهو كما ترى. قوله تعالى "وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" (النمل 17) الحشر هو جمع الناس وإخراجهم لأمر بإزعاج والوزع المنع وقيل الحبس، والمعنى كما قيل: وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يمنعون من التفرق واختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم وحبس كل في مكانه. ويستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن والطير يسيرون معه كجنوده من الإنس. وكلمة الحشر ووصف المحشورين بأنهم جنود، وسياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن والإنس والطير سواء كانت "مِنَ" في الآية للتبعيض أو للبيان.
https://telegram.me/buratha