الصفحة الإسلامية

اشارات قرآنية من كتاب الصوت اللغوي للدكتور الصغير (ح 12)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب الصوت اللغوي في القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغير عن دلالة النغم الصارم: أصوات الصفير في وضوحها، وأصداؤها في أزيزها، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت، وكان ذلك فيما يبد ولي نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، واصطكاكها في جهاز السمع ، ووقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق وذلك الاصطكاك، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي: الزاي، السين، الصاد، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة، وهي بذلك تعبر عن الشدة حيناً، وعن العناية بالأمر حيناً آخر، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت، وأزيزاً مشدداً لدى السمع، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الاستعمالية، ومؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى. وسأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير، لرصد أبعادها الصوتية، هي: (رجز) و (رجس) و (حصحص). 1ـ الرجز، في مثل قوله تعالى "أولآئك لهم عذاب من رجز أليم" (سبأ 5). وقوله تعالى "لئن كشفت عنا الرجز" (الاعراف 134). وقوله تعالى "فلمّا كشفنا عنهم الرجز" (الاعراف 135). ويظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها، والهدة عند حدوثها، والنازلة في وقوعها، ولما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضها، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء " (البقرة 59). وقوله تعالى "فأرسلنا عليهم رجزاً من السّماء بما كانوا يظلمون" (الاعراف 162). وقوله تعالى "إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كاموا يفسقون" (العنكبوت 34). ونستظهر في الرجز الإرسال والإنزال من السماء بضرس قاطع وأمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذير والإنذار.

ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن دلالة النغم الصارم قائلا: 2 ـ وحينما نقارن لفظ (الرجز) بمثيله معنى ومبنى (رجس) وهي مكونة كتكوينها في الراء والجيم، والسين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت، ولها ذات الإيقاع على الأذن، حينما نقارن صوتياً ودلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت، ونجد المعاني متقاربة في الإفادة، فقد قيل للصوت الشديد: رجس ورجز، وبعير رجاس شديد الهدير، وغمام راجس ورجاس شديد الرعد. قال تعالى "قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب" (الاعراف 71). وقال تعالى "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" (يونس 100). كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب وصبّه وإنزاله، وهذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس والقذارة ومرض القلوب، وحالات النفس المتقلبة، نرصد ذلك في كل من قوله "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" (المائدة 90). وقال تعالى "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" (الحج 30). وقال تعالى "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" (الاحزاب 33). وقال تعالى "وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وما توا وهم كافرون" (التوبة 125). فالصوت في المعاني كلها الصوت نفسه، والصدى ذات الصدى. 3 ـ وحينما نقف عند الصاد في مثل قوله تعالى "قالت أمرأت العزيز الآن حصحص الحق" (يوسف 51). فإننا نستمع إلى الصوت المدوّي، إذ كانت الصاد واضحة الصدور من المخرج الصوتي. فكانت (حصحص) واضحة الظهور بانكشاف الأمر فيما يقهره على الأذغان، وهنا قد يمتلكك العجب لدى اختيار هذا اللفظ في أزيزه، ووضوح أمره مع القهر، فلا تردّ دلائله، ولا تخبو براهينه. فإذا شددت الصاد كانت دلالتها الصوتية، وإرادتها المعنوية، أوضح لزوماً، وأشد استظهاراً، وأكثر إمعاناً كما في قوله تعالا "أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور" (العاديات 9-10). والصوت في صيغة الإرعاب، وفي سياق الوعيد، قد تلمس فيه نزع ما في القلوب من أسرار، واستخراج ما فيها من خفايا، دون طواعية من أصحابها؟. وقد يعطي دوي العبارة، وهيكل البيان، صيغة الإنذار، وأنت تصطدم بالوقوف عند السين من حروف الصفير في قوله تعالى "فلآ أقسم بالخنس * الجوار الكنس* واليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس" (التكوير 15-18).

وعن الصوت بين الشدة واللين يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير في كتابه: ولا نريد بهذا الملحظ المظاهر الصوتية للحروف الشديدة أو حروف اللين، وإنما نريد الدلالة الأصواتية للكلمات وهي تتشكل في سياق يمثل الشدة حيناً، والرقة حيناً آخر ، في دلالة تشير إلى أحدهما أولهما في ذات اللفظ، أو جملة العبارة. ومن فضيلة النظم القرآني أن تنتظم هذه الظاهرة في الصوائت والصوامت من الأصوات، والصوائت ما ضمت حروف العلة عند علماء الصرف، وهي: الألف والياء والواو، والصوامت بقية حروف المعجم، وهي الصحيحة غير المعتلة. ويبدو أن الأصوات الصائتة بعد هذا هي الأصوات المأهولة بالانفتاح المتكامل لمجرى الهواء، فتنطلق دون أي دوي أو ضوضاء، وتصل إلى الأسماع مؤثرة فيها تأثيراً تلقائياً في الوضوح والصفاء، وعلة ذلك انبساطها مسترسلة دون تضيق في المخارج. ويتضح من هذا أن الأصوات الصامتة ما كانت بخلاف ذلك فهي تتسم بتضيّق مجرى الهواء واختلاسه، فتنطلق أصواتها بأصداء مميزة تختلف شدة وضعفاً بحسب مخارجها فتحدث الضوضاء من خلالها نتيجة احتباس الهواء بقدر ما. ففي الصوائت نلحظ قوله تعالى "ونفس وما سواها * فألمها فجورها وتقواها" (الشمس 7-8). في اقتران الواو والألف في موضع واحد من سوى وتقوى، كما نلحظ اقتران الياء والألف في سقيا من قوله تعالا "فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها" (الشمس 13). فتجد استطالة هذين الحرفين في كلا الموضعين، لا يصدهما شيء صوتياً، وهما يتراوحان دلالياً في ألفاظ تحتكم الشدة واللين، فالتذكير بخلق النفس الإنسانية قسماً إلى جنب عملها بين الفجور والتقوى، والتحذير من الناقة إلى جنب التحذير من منع السقيا. وفي الصوامت تجد مادة (مسّ) قي القرآن بأزيزها الحاكم ، وصوتها المهموس، ونغمها الرقيق، نتيجة لتضعيف حرف الصفير، أو التقاء حرفيه متجاورين كقوله تعالى "ولو لم تمسسه نار" (النور 35). هذه المادة في رقتها صوتياً، وشدتها دلالياً، تجمع بين جرس الصوت الهادىء، وبين وقع الألم الشديد، فالمس يطلق عادة ويراد به كل ما ينال الإنسان من أذى ومكروه في سياق الآيات التالية: قال تعالى "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" (ال عمران 140). وقال تعالى "وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم" (الروم 33). وقال تعالى "فإذا مس الإنسان ضر دعانا " (الزمر 49). وقال تعالى "ولئن اذقناه نعماء بعد ضرآء مسته" (هود 10). وقال تعالى "ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك" (الانبياء 46). وقال تعالى "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم" (الانفال 68). وقال تعالى "وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" (الانبياء 83). فهذه الصيغ المختلفة من المادة، أوردناها للدلالة على شدة البلاء، ووقع المصاب، وفرط الأذى، واللفظ فيها رفيق رقيق، ولكن المعنى شديد غليظ.

ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله حول الصوت بين الشدة واللين قائلا: وللدلالة على هذا الملحظ، فقد وردت المادة في صوتها الحالم هذا مقترنة بالمس الرفيق لاستخلاص الأمرين في حالتي، السراء والضراء، الشر والخير، كما في كل من قوله تعالى: أ ـ "وقالوا قد مس ءابآنا الضرآء والسرآء" (الاعراف 95). ب ـ "إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعاً" (المعارج 19-21). فالضراء تمسهم إذن ، والسراء تمسهم كذلك، والشر يمسهم والخير كذلك، ولم يشأ القرآن العظيم تغيير المادة بل اللفظ عينه في الحالتين، وذلك للتعبير عن شدة الملابسة والملامسة والالتصاق. وكما ورد اللفظ في مقام الضر منفرداً في أغلب الصيغ، وورود مثله جامعاً لمدركي الخير والشر، فقد ورد للمس الجميل خاصة في قوله تعالى "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" (ال عمران 120). وقد ينتقل هذا اللفظ بدلائله إلى معان آخر، لا علاقة لها بهذا الحديث دلالياً، وإن تعلقت به صوتياً، كما في إشارة القرآن إلى المس بمعنيين مختلفين أخريين. الأول: كنى فيه بالمس عن النكاح في كل من قوله تعالى: أ ـ "قالت أنا يكون لي غلام ولم يمسسني بشر" (مريم 20). ب ـ "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن" (البقرة 236). الثاني: وقد عبر فيه بالمس عن الجنون كما في قوله تعالى: "الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس" (البقرة 275). وقد اجتمعت كلها في طبيعة الصوت.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك