الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الصوت اللغوي في القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغير عن الانسجام الصوتي: ولا يعني هذا التغافل عن مهمة الانسجام الصوتي، والوقع الموسيقي في ترتيب الفواصل القرآنية، فهي مرادة في حد ذاتها إيقاعياً ، ولكن يضاف إليها غيرها من الأغراض الفنية، والتأكيدات البيانية، مما هو مرغوب فيه عند علماء البلاغة، فقوله تعالى "فأما اليتم فلا تقهر * وأما السآئل فلا تنهر" (الضحى 9-10). فقد تقدم المفعول به في الآيتين، وهو اليتيم في الأولى، والسائل في الثانية، وحقه التأخير في صناعة الاعراب، وقد جاء ذلك مراعاة لنسق الفاصلة من جهة، وإلى الاختصاص من جهة أخرى، للعناية في الأمر. وعن معرفة فواصل القرآن صوتياً : تبرز ثلاثة ملامح على سبيل المثال: الأول: جمع القرآن بين "تحشرون" و "العقاب" وهما مختلفان في حرف الفاصلة والزنة في قوله تعالى "وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقبله وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب" (الانفال 24-25). وفي السورة نفسها جمع بين "تعلمون" و"عظيم" (الانفال 27-28). وهذا مطرد في القرآن بآلاف الأمثلة. الثاني: الوقف عند حرف معين لا يتغير في الفاصلة كما في سور عدّة ، ونماذج متعددة ، فمن أمثلته عادة جملة من السور القصار، كالقدر، والعصر، والفيل، والليل، والكوثر، والاخلاص، والناس، وجملة من السور الوسطى كالأعلى والقمر ، وفيها جميعاً مراعاة للمنهج الصوتي، والبعد الإيقاعي، ويتجلى النغم الصوتي المتميز بأبهى صوره، وأروع مظاهره في سورة القمر، إذ تختتم فيها الفاصلة بصوت الراء مردداً بين طرف اللسان وأول اللهاة مما يلي الأسنان. الثالث : الوقوف عند حرف معين للفاصلة في بعض السور، والانتقال منه للوقوف عند حرف آخر للفاصلة في بعضها الآخر ، وأمثلته متوافرة في جملة من سور القرآن، كالنبأ، والمرسلات، والنازعات، والتكوير، والانفطار، والمطففين، وانظر إلى قوله تعالى في سورة "عبس" وهي تواكب صوت الهاء في فواصل عدة آيات، ثم تنتقل إلى الراء الملحقة بالتاء القصيرة بعدها في أيات أخر "يوم يفرالمرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل أمرى منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة" (عبس 34-42). هذا المناخ المزري عقبات متراكمة، من فوقها عقبات متراكمة، وإزالة هذه العقبات تدريجياً هو الطريق إلى قفز تلك العقبة الكبرى. قوله تعالى "فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو اطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة" (البلد 11-16). ما هذا الإيقاع المجلجل؟ وما هذه النبرات الصوتية الرتيبة؟ وما هذا النسق المتوازن؟ العقبة، رقبة، مسغبة، مقربة، متربة، أصداء صوتية متلاحقة، في زنة متقاربة، زادها السكت رنة وتأثيراً ولطف تناغم، وسط شدة هائلة مرعبة، وخيفة من حدث نازل متوقع، فالاقتحام في مصاعبه ومكابدته ، والعقبة في حراجتها والتوائها ومخاطرها، يتعانقان في موضع واحد، يوحي بالرهبة والفزع. (والاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بينهما من تلاؤم في الشدة والمجاهدة واحتمال الصعب ، والمناسبة بين اقتحام العقبة وبين خلق الإنسان في كبد، أوضح من أن يحتاج إلى بيان، والجمع بينهما في هذا السياق، يقدم لنا مثلاً رائعاً من النظم القرآني المعجز: فالإنسان المخلوق في كبد، أهل لأن يقتحم أشد المصاعب، ويجتاز أقسى المفاوز، على هدى ما تهيأ له من وسائل الإدراك والتمييز، وما فطر عليه من قدرة على الاحتمال والمكابدة).
وعن ظواهر الملحظ الصوتي في فواصل الآيات يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير: الملحظ الصوتي في فواصل الآيات القرآنية قائم على عدة ضواهر ، نرصد منها أربع ظواهر: الأولى: وتتمثل بزيادة حرف ما في الفاصلة وعناية للبعد الصوتي، وعناية بنسق البيان في سر اعتداله ، ليؤثر في النفس تأثيره الحسّاس، فتشرئب الأعناق، وتتطلع الأفئدة حين يتواصل النغم بالنغم ، ويتلاحم الإيقاع بالإيقاع، وأبرز مظاهر هذه الظاهرة ألف الاطلاق إن صح التعبير بالنسبة للقرآن، فقد ألحقت الألف في جملة من الآيات بأواخر بعض كلماتها ، وكان حقها الفتح مطلقاً، دون مدّ الفتحة حتى تكون ألفاً، وانظر معي في سورة واحدة، إلى كل من قوله تعالى، وكأن ذلك معني بحد ذاته ومقصود إليه لا ريب: وقال تعالى "وتظنون بالله الظنونا" (الاحزاب 10). وقال تعالى "فأضلّونا السبيلا" (الاحزاب 67). وقال تعالى "وأطعنا الرسولا" (الاحزاب 66). يبدو أن إلحاق هذه الألف في "الظنون" "السبيل" "الرسول" يشكل تلقائياً ظاهرة صوتية تدعو إلى التأمل، وإلا فما يضير الفتح لولا الملحظ الصوتي (لأن فواصل هذه السورة منقلبة عن تنوين في الوقف ، فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع، وتناسب نهايات الفواصل). وما يقال هنا يقال فيما ورد بسورة القارعة في زيادة هاء السكت وإلحاقها في «هي » لتوافق الفاصلة الأولى الثانية في قوله تعالى "وما ادراك ما هيه * نار حامية" (القارعة 10-11). وهيا إلى سورة الحاقة وانظر إلى هاء (السكت) في إضافتها وإنارتها في جملة من آياتها ، فتقف خاشعاً مبهوراً، تمتلك هزة من الأعماق وأنت مأخوذ بهذا الوضع الموسيقي الحزين، المنبعث من أقصى الصدر وأواخر الحلق ، فتتقطع الأنفاس، وتتهجد العواطف، واجمة، متفكرة، متطلعة، فتصافح المناخ النفسي المتفائل حيناً، والمتشائم حيناً آخر، وأنت فيما بينهما بحالة متأرجحة بين اليأس والرجاء ، والأمل والفزع، والخشية والتوقع، فسبحان الله العظيم حيث يقول "يومئذ تعرضون لا تخفا منكم خافية * فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه * أني ظننت أنى ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * ياليتها كانت القاضية * مآ أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه" (الحاقة 18-29). فأنت تلاحظ الفواصل: كتابيه، حسابيه، كتابيه، حسابيه، ماليه، سلطانيه، قد أزيدت فيها هاء السكت رعاية لفواصل الآيات المختومة بالتاء القصيرة والتي اقتضى السياق نطقها هاء للتوافق. وما زلنا عند الهاء، فتطلع إليها، وهي ضمير ملصق بالفواصل، غير زائد بل أصلي الورود، وقد حقق بذلك وقعه في النفس، وجرسه في الأذن ، وقوته في امتلاك المشاعر، قال تعالى "يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التى تؤيه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه" (المعارج 11-14). فلا زيادة في هذه الهاء، وهي ضمير في الفواصل كلها، وقد حققت صوتياً مناخ الانتباة، ورصد مواضع الاصغاء من النفس الإنسانية.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله قائلا فواصل الآيات: الثانية: وتتمثل بحذف حرف ما رعاية للبعد الصوتي، وعناية بالنسق القرآني كما في قوله تعالى "والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر" (الفجر 1-4). فقد حذف الياء من يسري موافقة للفاصلة فيما يبدو ومثله قوله تعالى "فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن" (الفجر 15-16). فالياء من "اكرمن" و "أهانن" قد حذفت رعاية لهذا الملحظ، ولما في النون من الغنة عند الوقوف عليها فيما يبدو ، ويظهر أن هذا الأمر مطرد في جملة من آيات القرآن الكريم في فواصل ما في قوله تعالى "لكم دينكم ولى دين" (الكافرون 6). الثالثة: وتتمثل في تأخير ما حقه التقديم ، وتقديم ما حقه التأخير، زيادة في العناية بتركيب السياق، وتناسق الألفاظ، وترتيب الفواصل، كما في قوله تعالى "فأوجس في نفسه خفيفة موسى" (طه 67). فتأخر الفاعل وحقه التقديم، وعليه يحمل تقديم هارون على موسى في قوله تعالى "فألقى السحرة سجدا قالوا ءامنّا برب هارون وموسى" (طه 70). فإن هارون وزير لموسى، وأهمية موسى سابقة له ، وقدم هارون عليه رعاية لفواصل آيات السورة ، إذا انتظمت على الألف والألف المقصورة في أغلبها ، والله العالم. الرابعة: أشار الزركشي (ت: 794 هـ) أنه قد كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد واللين وإلحاق النون، وحكمته وجود التمكن من التطريب. وحكى سيبويه (ت: 180 هـ) عن العرب أنهم إذا ما ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء، ما ينون، وما لا ينون، لأنهم أرادوا مدّ الصوت.
https://telegram.me/buratha