الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب القضاء والشهادات للسيد ابو القاسم الخوئي في مقدمته: ان وجود الحوزة العلميّة في النجف الأشرف بعد التهديم الذي هدمها النظام البعثي متمثلاً بدرسه الشريف، فكان إذا عطل درسه معناه أن حوزة النجف الأشرف أقفلت أبوابها، فلذا كان مضطراً ومُلجأً إلى مواصلة الدرس والحفاظ على الحوزة العلمية المقدّسة، الى أن وصل به الحد أنّه لا يطيق التدريس كمال الاسبوع، فأخذ ينقص منه يوماً، إلاّ أنّه لا يعلم أي يوم هو، فكان الطلاب يحضرون محل الدرس وهو مدرسته (دار العلم) التي أنشأها السيد الاُستاذ وهدمها البعثيون بعد ذلك ثم حينما لا يأتي يقفلون راجعين، ثم بعد مدّة أنقص من الاسبوع يومين كذلك من دون أن يعلم أي يومين هما، وهكذا الى أن لاحظت في الأيام الأخيرة أنّه كان يأتي في الأسبوع يوماً واحداً أو يومين، لا يعلم أي يومين هما ثم حدثت الانتفاضة الشعبانية المباركة، وتبناها سماحة السيد الاستاذ، وشكل لجنة لإدارة البلاد، وأصدر بيانه الأوّل، ثم وبعد قمع الانتفاضة وما لاقاه من أثر ذلك أصبح رهين الإقامة الجبرية في منزله في الكوفة، الى أن استشهد رحمه اللّه، وجزاه عنا خير جزاء المحسنين، وأسكنه اللّه الفردوس الأعلى مع النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم آلاف التحية والسلام. لاقى رحمه اللّه من البعثيين ما لاقاه، كيف لا وهو زعيم الشيعة، وزعيم الحوزة العلمية في دولة يحكمها البعثيون الزنادقة، وتتزعم محاربة الشيعة والتشيع، وتدعم لأجل ذلك من كل مَن لا بصيرة له ولا دين من أعداء التشيع دولاً ومذاهب فاسدة "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة 32) حتى اُستشهد رحمه اللّه. منع البعثيون تشيعه، ودفن سراً قدّس اللّه نفسه الزكية، كانت منيّته لأجل الدفاع عن المذهب الحقّ أسوة بأئمته وسادته بأيدي أعدائه، الذين آذاقهم اللّه الذل والخزي في الدنيا ومن ورائهم عذاب عظيم.
يقول آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره عن كتاب القضاء: القضاء هو فصل الخصومة بين المتخاصمين، والحكم بثبوت دعوى المدّعي أو بعدم حق له على المدّعى عليه. القضاء لغة بمعنى الانهاء، وقد استعمل ذلك في القرآن المجيد في عدة موارد، منها قوله تعالى: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرْضِ" (الجمعة 10) ومنها قوله تعالى: "ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ" (الحج 29)، ومنها قوله تعالى: "فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا" (الاحزاب 37)، وغير ذلك. وكذا في العرف، فيقال قضى عليه أي قتله، أو قضى نحبه، أو قضى دينه، وكل ذلك بمعنى الانهاء والإتمام. أما القضاء باصطلاح الفقهاء: فهو عبارة عن فصل الخصومة والحكم بثبوت أو عدم ثبوت دعوى المدعي على المدعى عليه. وليس من البعيد أن يكون هذا المعنى داخلاً في المعنى اللغوي، بمعنى أنه بحكمه بثبوت الحق أو عدم ثبوته ينهي المشاجرة والمنازعة بين المتخاصمين. وقد استعمل هذا في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء 65)، فما حكم به صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان هو المتبع. وليس القضاء بهذا المعنى من مختصات الدين الاسلامي الحنيف، بل هو ثابت في جميع المجتمعات البشرية المتدينة منها وغير المتدينة.
وعن أجرة التبليغ يقول المرجع السيد الخوئي قدس سره: وكل من كان عالماً بالحكم عليه التبليغ "قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً" (الانعام 90)، "إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الشعراء 109) (الشعراء 127) (الشعراء 145) (الشعراء 164)، "وَمَا تَسئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" (يوسف 104)، فإنّ المستفاد من ذلك والمقطوع به أن التبليغ وظيفة كل مكلف، وليس له مطالبة الاجرة. وأما مسألة القضاء فلم يثبت فيه ذلك إلاّ دعوى الإجماع كما تقدّم وهي غير ثابتة والمقدار الثابت أنه لا بد من القيام بهذا العمل، فله مطالبة الاجرة فإنّ أديت إليه فهو، وإلاّ فيجب عليه القضاء إن كان واجباً تعيينيّاً وإلاّ فلا يجب، فيرجع المترافعان إلى غيره. فلو فرض أن في بلد ثلاثة قضاة وكلهم يطلبون الأجرة، إلاّ أن المترافعين لا يؤديانها. ليس للقضاة ترك القضاء، وإلاّ كان كل منهم آثماً، إذ المفروض أنه واجب عليهم، كما هو الحال في تطهير المسجد. إن جواز أخذ الاجرة على القضاء إنّما هو فيما إذا كان الحكم على طبق الموازين الشرعية، وأما لو لم يكن كذلك كما لو أخذ من أحدهما على أن يحكم له بالباطل، أو على الاطلاق باطلاً أو حقاً، فليس هو من القضاء في شيء، بل هو افتراء على اللّه سبحانه، فلا شك في عدم جواز أخذ المال عليه سواء كان بعنوان الأجر أم لا، وهذا هو المسمى بالرشوة، وهي حرام على الآخذ والباذل، ولم يختلف في تحريمها اثنان من المسلمين، منا ومن غيرنا، بل هو من الواضحات في الدين. ويدل عليه من الآيات قوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة 188).
وعن قوله تعالى "إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواالأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (النساء 58) يقول السيد ابو القاسم الخوئي قدس سره إن الدعوى لاتثبت إلاّ بدليل، وأما تعيين الدليل فهو بيد المدعي، فإذا عين المدعي القاضي المنصوب، ليس للمنكر الامتناع، وإلى هذا تشيرعدة من الآيات، فإن اللّه سبحانه وتعالى ذم من يلزم المدعي بالاثبات من دليل خاص، كما في قوله: "وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّه أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ" (البقرة 118)، أو قوله "لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ" (الانعام 8) وكان الأنبياء عليهم السلام يجيبونهم بأن الآيات من عند اللّه، كما في كثير من الآيات، وتعرضنا لذلك في كتاب البيان، وأن مدعي النبوة لا بد له من إقامة الدليل على نبوته، وأما أنه باي طريق فليس للناس تعيين ذلك، بل التعيين بيد اللّه، وهو بشر يتبعه. وهكذا بناء العقلاء، فإنّه قائم على أن من يدعي يطالب بالدليل، لا أنه يطالب بدليل يطلبه الناس
https://telegram.me/buratha