الدكتور فاضل حسن شريف
وعن علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن يقول الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة: علاقة المجاز العقلي في القرآن: كالجزئية والكلية، والسببية والمسببية، والمحلية والحالية، والآلية والمجاورة، والملزومية واللازمية، والمطلقية والمقيدية، وأضراب ذلك من التفريعات المتشابكة. في كل من قوله تعالى: أ ـ "قم اللّيل إلاّ قليلا" (المزمل 2). ب ـ "لا تقم فيه أبدا" (التوبة 108). ج ـ "ويبقى وجه ربّك" (الرحمن 27). د ـ "كلّ شيء هالك إلاّ وجهه" (القصص 88). هـ ـ "فتحرير رقبه مومنة" (النساء 92). و ـ "وجوه يومئِذ خاشعة (2) عاملة نّاصبة (3)" (الغاشية 2-3). ز ـ "واضربوا منهم كلّ بنان" (الانفال 12) نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة، مما يدفع الى حملها على المجاز اللغوي المرسل، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ، فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز. ففي قوله تعالى "قم اللّيل إلاّ قليلا" (المزمل 2) وقوله تعالى "لا تقم فيه أبدا" (التوبة 108) ندرك والله العالم أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى: صلّ، والعلاقة في ذلك كون القيام ركنا أساسيا، وجزءا مهما في الصلاة، فعبّر به لهذا الملحظ. وفي قوله تعالى "ويبقى وجه ربّك" (الرحمن 27) وقوله تعالى "هو كلّ شيء هالك إلاّ وجهه" (القصص 88)، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية لله عز وجلّ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان والإحلال والعينية والمشاهدة، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى عنه في الدلالة على كل ذات، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل. وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى "وجوه يومئذ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3)" (الغاشية 2-3) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته الأجساد بتمامها، لا الوجوه وحدها، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها. وفي قوله تعالى "فتحرير رقبة مؤمنة" (النساء 92) فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة جزءا من هذا الكل، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند العرب، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة. وفي قوله تعالى "واضربوا منهم كلّ بنان" (الانفال 12) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة. وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني، وهو باب متسع فيه.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن قائلا: وفي كل من قوله تعالى: أ ـ "يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من" (المائدة 19). ب ـ "والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما" (المائدة 38) نلمس مجازا مرسلا، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج السابقة، لأن المراد بجعل الأصابع، هو وضع الأنامل في الآذان، وهو القدر الذي تستوعبه، وهي جزء من كلي الأصابع. والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند الفقهاء، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت "أصابعهم" و "أيديهما" من الآيتين الكريمتين، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء، وإرادة الجزء ذاته فحسب. وفي كل من قوله تعالى: أ ـ "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (البقرة 194). ب ـ "وجزاؤا سيّئةٍ سيئةٌ مثلها" (الشورى 40). جـ ـ "ونبلوا أخباركم" (محمد 31) نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي: ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم، والثاني جزاء، وفرق بين الجرم والجزاء، فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ لا يأمر الله بالاعتداء قطعا، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء الحقيقي، فكان التعبير عنه بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه. قال القزويني ( ت : 739 هـ ) (وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن الاعتداء). في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة، والسيئة الثانية في الآية غير السيئة الأولى، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة، وفرق بين الذنب والاقتصاص، إذن فليس الاقتصاص سيئة، ولكنه مسبب عنها، فسمي باسمها، وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان، وليس البلاء عرفانا، ولكنه مسبب عنه، فكأنه تعالى قد أراد: ونعرف أخباركم، لأن البلاء الاختبار، وفي الاختبار حصول العرفان، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون: رعينا الغيث، والغيث هو المطر، والمطر لا يرعى، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث. وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى: "ومكروا ومكر الله" (ال عمران 54) من الاستعمال المجازي، إذا أريد به العقوبة، لأن المكر سببها، وقيل (ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم، وهذا محقق من الله تعالى، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة).
يقول الاستاذ محمد حسين الصغيرفي كتابه: وفي كل من قوله تعالى: أ ـ "وينزل لكم من السّماء رزقا" (غافر 13). ب ـ "إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا" (النساء 10). ج ـ "وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون" (الاعراف 4). نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب، وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد به السبب بالذات. ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن، وإنما ينزل الله المطر، ولما كان المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية. وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار، باعتباره يكون سببا لدخول النار واستحقاقها، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل، ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه بالنار ناظرا الى هذه الحقيقة. وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا، وذلك بقرينة "فجاءها بأسنا" (الاعراف 4) إذ لا معنى لوقوع الإهلاك، ومجيء البأس بعده، وإنما يأتي البأس فيحدث الإهلاك عنده، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا، لأنه سبب الإرادة المقتضية للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه. وفي كل من قوله تعالى: أ ـ "وءاتوا اليتامى أموالهم" (النساء 2). ب ـ "إنه من يأت ربّه مجرما" (طه 74) مجاز لغوي مرسل، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه، ففي الآية (أ) المراد باليتامى الذي كانوا يتامى، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون بعد البلوغ، ولا يتم بعد البلوغ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ. وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة، بل باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان عليه في السابق ، وأطلقه هنا تجوزا، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان والعناد والإصرار والقوة، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة، وما أشبه ذلك، إذ ليس هو هناك في مثل تلك الحال، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان عليه من الإجرام في الدنيا. وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى: "إني أراني أعصر خمرا" (يوسف 36). فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر، أو الخمر بالنسبة الى العصر، والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه، وإنما العنب المتحول خمرا الذي يعصر، فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا، جاء على سبيل الاتساع، باعتبار ما سيؤول إليه العنب بعد العصر، وصيرورته خمرا.
https://telegram.me/buratha