الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة للدكتور محمد حسين علي الصغير عن الزيغ: قوله تعالى :"فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" (الصف 5). قال الشريف الرضي (فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، وأن الأول قبيح إذ كان معصية، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة، ولو كان الأول هو الثاني لم يكن للكلام فائدة، وكان تقديره: فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى، فكان خلفا من القول يتعالى الله عنه، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان، وإزاغته تعالى لهم إنما كانت عن طريق الجنة والثواب، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه، لأن العقوبة لا تكون من جنس المعصية إذ كانت المعصية قبيحة، والعقوبة عليها حسنة). فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (البقرة 194).وكقوله تعالى "وجزاؤُا سيّئةٍ سيئّةٌ مثلُها" (الشورى 40) فقد أطلق الاعتداء على ظاهره، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه، إذ ليس الجزاء اعتداء، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة، وليس ذلك سيئة، ولكنه سبب منها، فأطلقت عليه، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي، فاعتبر الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، فالأول زيغ عن الإيمان، والثاني العقوبة على الميل، والانحراف عن الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه، وإنما سمي كذلك مجازا، وهو يعقب على ذلك.
ويستمر الاستاذ الصغير رحمه الله متحدثا عن الزيغ: ويدافع الشريف الرضي عن وجهة نظره فنيا فيقول (وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم، بل قال "فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم" (الصف 5). فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به، ووقف عند حدّه، وخلاّهم واختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال "والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم" (محمد 17). فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في إضافة الفعل الى الأمر، وإن وقع مخالفا لأمره، لما كان وقوعه مقابلا لأمره، ويكشف عن ذلك قوله تعالى "إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (109) فاتّخذتموهم سخريّا حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110)" (المؤمنون 109-110). وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله، وكيف يكون وهم يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا، ولكنهم لما اتخذوهم سخريا، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم، أنسوهم ذكر الله، فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به، وتخويفهم منه، ودعائهم إليه، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه. وأقول: إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر، وإن لم يأمر به، بل أمر بضده، لما وقع مقابلا لأمره. فسمي من كان سبب الضلال مضلا، وإن لم يكن منه دعاء الى الضلال، ولا الى ضده فوقع الضلال عند دعائه، قال سبحانه "وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد ءامنا واجنبّني وبنيّ أن نّعبد الأصنام (35) ربِّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس فمن تبعني فإنّه مني ومن عصاني فإنّك غفور رحّيم (36)" (ابراهيم 35-36). فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد، لا يكون منها صرف عن طاعة، ولا دعاء الى معصية. ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان الفعلان واحدا، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفان).
يقول الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه عن المجاز اللغوي: وتبرز ظاهرة هذا المجاز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه، واستمرارية الصفات وغلبتها، وملابسة الوقائع بعضها لبعض، وتأكيد بإطلاق ضده عليه، وهنا يتوالى رصد المجاز اللغوي المرسل في التعبير القرآني: 1 ـ ففي تصديق الخبر، وإبرام الأمر، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون" (ال عمران 59). فإن لفظة كن تدل على الأمر، ولكن المراد بها الخبر والتقرير، والتقدير فيها يكون فيكون، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي فهو يكون، والرأي لأبي علي الفارسي. وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد. 2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى: أ ـ "وكانت من القانتين" (التحريم 12). ب ـ "إلاّ امرأته كانت من الغابرين" (الاعراف 83) (العنكبوت 32). ج ـ "فلولا أنّه كان من المسبّحين" (الصافات 143). فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور، ولو لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات، ولكنه أطلق القانتين على الإناث من باب التغليب، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال القانتين. وما يقال هنا يقال بالنسبة (للغابرين) فإن اللفظ موضوع للذكور المتصفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له، وإذا كان كذلك فهو مجاز. وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء المهمة في الصلاة، ولملازمة الصلاة للتسبيح، وكون التسبيح جزءا منها، فأطلق عليها تجوزا، والمعني الصلاة. 3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى "وأُشرِبوا في قلوبهم العِجل" (البقرة 93). والعجل ليس موضع ذلك، بل المراد حب العجل، فحذف المضاف وأقام مقامه المضاف إليه، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة، إذ أنزل العجل منزلة الحب، لملابسته لهم في قلوبهم، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم، وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال. 4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى "فبشّرهم بعذاب أليم" (ال عمران 21). والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة، لا في مظاهر الشدة والعناء، وليس العذاب من مواطن الخير، حتى يبشر به العاصي، ولكنه تعالى أطلقه عليه تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي، أو السخرية والتهكم، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك. وقد حمل أبو مسلم، محمد بن بحر قوله تعالى "فبصرك اليوم حديد" (ق 22) على هذا الملحظ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة، لا من باب التأكيد على الشيء باسم ضده، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين. مما تقدم، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن، وكثرة ذيوعه وانتشاره، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد لمفردات مماثلة دون استيعاب، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل تشكل سمة بارزة.
https://telegram.me/buratha