الدكتور فاضل حسن شريف
عن آيات المشيئة في القرآن الكريم يستمر في سردها السيد نبيل الحسيني كما جاء في كتابه سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله سبحانه وتعالى: "فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ" (البقرة 223). وقال: "لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا" (الكهف 77). وقال فيما بين أن العبد قد يريد ما يكره الله من إرادته فقال: "تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ" (الانفال 67). وقال: "وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا" (النساء 27). وقال: "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً" (التوبة 46) فأخبر أنهم لو أرادوا لفعلوا كما فعل من أراد الخروج. وقال: "يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّـهِ" (الفتح 15). وقال: "وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا" (النساء 60). وقال: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ" (المائدة 91) وما أشبه ما ذكرنا أكثر من أن نأتي عليه في هذا الموضع. فإن قال: فما معنى قوله: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ" (التكوير 29) قيل له: إن الله ذكر هذا المعنى في موضعين، وقد بينهما ودل عليهما بأوضح دليل وأشفى برهان على أنها مشيئته في الطاعة، فقال: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴿28﴾ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)" (التكوير 28-29) فهو عز وجل شاء الاستقامة ولم يشأ الاعوجاج ولا الفكر، وقال في موضع آخر: "إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿29﴾ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ (30)" (الانسان 29-30). فالله قد شاء اتخاذ السبيل ولم يشأ العباد ذلك إلا وقد شاء الله لهم، فأما الصد عن السبيل وصرف العباد عن الطاعة فلم يشأ عز وجل. وفيها هذا البيان الوافي والشافي يتضح لنا أن المشيئة الإلهية بريئة مما يقوله العصاة والظالمون فيما يصدر عنهم من أفعال قبيحة ومخالفة للشريعة بأن الله تعالى هو الذي أراد لهم ذلك فتعال الله عما يصفون علواً كبيراً بل هم الذين أرادوا هذا الفعل.
وعن المشيئة التشريعية والمشيئة التكوينية يقول السيد الحسني: بقي أن نورد ما يتعلق بالمشيئة وأنها في حقيقة تكوينها تنقسم إلى (المشيئة التشريعية و(المشيئة التكوينية) واللتين يتضح بهما معنى قول الإمام الحسين عليه السلام: (قد شاء الله أن يراني قتيلاً، وقد شاء الله أن يراهن سبايا). فنقول: إن الله تعالى قد شاء أن يجعل الأرض دار اختبار وبلاء، وشاء أن يجعل فيها خليفة وأنبياء ورسلاً وأئمة، وشاء أن يجعل هذا الإنسان مكوناً من غرائز وشهوات وعقل وهذا وما شابهه كله من الإشاءة التكوينية. وأما الإشاءة التشريعية: فهي أن الله تعالى قد شاء أن يعبد وحده لا شريك له، وأن يؤمن برسله وأنبيائه، وكتبه، وشاء سبحانه من عباده طاعة هؤلاء الأنبياء، وشاء أن فرض عليهم العبادات والمعاملات وشاء أن لا يظلم الإنسان الإنسان وشاء أن يتراحموا ويتباروا وغيرها من التشريعات الإلهية وكلها ضمن مشيئته سبحانه. إلا أن الإنسان خلط بين المشيئة التكوينية والمشيئة التشريعية؛ كي يجد مبرراً وعذراً لا يقترفه من ذنوب ومعاصٍ وتعدٍ للحدود فيجعل وعلى سبيل المثال؛ القتل غرضاً للسرقة أو للوصول إلى السلطة ثم يقول لو شاء الله لم يقتل فلان أو لم أكن قاتلاً في حين أن الإنسان القاتل هو الذي شاء قتل أخيه بعد أن انقاد لشهواته وغرائزه، فالموت هنا: مشيئة تكوينية، لكن طريقة الموت وهو القتل مشيئة تشريعية بمعنى: أن الله تعالى شاء حرمة القتل ونهى عنه وحذر منه وعاقب عليه لكن القاتل بيده شاء ذلك. من هنا: نجد أن القرآن الكريم يتعرض في أكثر من موضع لهذه الحقيقة وأن المشيئة، هي مشيئتان، مشيئة تكوينية ومشيئة تشريعية، وذلك من خلال قوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (يس 47).
ويستمر السيد نبيل الحسني في سرد المشيئتين التشريعية والتكوينية في كتابه: وفي بيان هذه المسألة يقول العلامة الطباطبائي رحمه الله: (وقوله: "قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ" (يس 47). جوابهم للدعوة إلى الانفاق، وإنما أظهر القائل "الَّذِينَ كَفَرُوا" (يس 47) ومقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق وإعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الاعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله وإصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الاظهار في قوله: "لِلَّذِينَ آمَنُوا" (يس 47) للإشارة إلى أن قائل "أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ" (يس 47) هم الذين آمنوا. وفي قولهم: "أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ" (يس 47) إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم: "أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ" (يس 47) بعنوان أنه مما يشاؤه الله ويريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم وجعلهم أغنياء. وهذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء والامتحان وهداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم وآخرتهم، ومن الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، وبين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد. ومن المعلوم أن مشيئة الله وإرادته المتعلقة بإطعام الفقراء والانفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا وتمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به وكذب مدعيه. وهذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية وقد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله: "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" (النحل 35). وقوله: "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ" (الانعام 148). وقوله: "وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم" (الزخرف 20). وقوله: "إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (يس 47). من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالانفاق وشاء منا ذلك). وبهذا يتضح أن الله تعالى قد شاء أن يرى بنات الرسالة سبايا مشيئة تكوينية ليرى سبحانه وهو العالم بحقائق الأشياء ومحيط بدقائق الأمور صبرهن وطاعتهن ليكون ذلك، أي الصبر ضمن المشيئة التشريعية، هذا من جهة. ومن جهة ثانية: قد شاء سبحانه في المشيئة التشريعية أن يبتلي الأمة بمودة آل محمد فكان سبيهن انتهاكا للمشيئة التشريعية لأن الله تعالى لا يشرع الظلم والقتل. وعليه: فإن انتهاك حرمتهم وقتلهم وسبي نسائهم وأطفالهم من أعظم الانتهاكات التشريعية لما يترتب على ذلك من تعد على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الرسالات والتشريعات الإلهية.
https://telegram.me/buratha