علي مارد الأسدي
الإجابة بإختصار قبل الخوض في بحث مقتضب ومركز يتناول تأريخه المزعوم في كتب التراث الإسلامي هي: نعم وكلا!
فمن هو خالد بن الوليد؟
تزعم بعض الروايات الإسلامية المتأخرة بقرون عن وجوده المفترض أنه أحد أبناء الوليد بن المغيرة المخزومي (527 م - 622 م)
الذي جاء ذمه في القرآن (سنسمه على الخرطوم)
بحسب المشهور من التفاسير القرآنية
ولد خالد بن الوليد ومات وعمره لم يتجاوز خمسون عامًا فقط (30 ق.هـ - 21 هـ / 592 - 642 م)
وقد أسلم متأخرًا أثناء أو قبيل فتح مكة
ولديه عشرات الأولاد (قيل ان عددهم 40)
ماتوا جميعهم بأمراض وغيرها وانقطع نسله تمامًا !
ان مراجعة هذه التواريخ والمعلومات على علاتها من حيث السند والمضمون، تثير فينا الكثير من الشكوك و علامات الاستفهام حول حقيقة ولادته من أب مسن، وسر موت جميع أولاده وانقطاع أثره، بجانب غياب أية رواية له عن النبي محمد "ص" رغم أنه صحابي، بالإضافة لمنجزه الحربي الكبير الذي يربو على مائة معركة، كما تروي كتب التأريخ الإسلامي خلال أربع سنوات فقط، قبل عزله بطريقة مهينة في خلافة عمر بن الخطاب!
لنقف قليلًا أمام أهم وأقدم الروايات الإسلامية التي تطرقت لجوانب من سيرته المفترضة في حياة النبي:
* جاء في صحيح البخاري عن سالم، عن أبيه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين.»!!
* ويروي مسلم في صحيحه بسلسلة من الرواة تنتهي الى أبي سعيد الخدري، قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله (ص) : لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه. ( المفارقة أن يستخدم هذا الحديث بشكل مجتزأ هذه الأيام للرد على الذين ينتقدون بعض الصحابة).
* ومرة أخرى نعود لصحيح البخاري فنقرأ : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَعَى زَيْدًا ، وَجَعْفَرًا ، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ ، فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
ورغم ان النص لم يذكر من قريب أو بعيد أن خالد بن الوليد هو المقصود ب(سيف من سيوف الله)، لكن الغريب ان يتم الاعلان عن اسمه والدعاية له في الهامش بعد ستة قرون من الواقعة المفترضة من قبل شارح كتاب البخاري، يحيى بن شرف الحزامي الشافعي (631هـ-1233م / 676هـ-1277م) المشهور باسم "النووي"!!
وتكاد تكون هذه الروايات هي أهم ما عرف عن سيرة خالد بن الوليد أثناء حياة النبي محمد "ص".
لكن يمكننا القول أن صناعة المجد والإسطورة لشخصية مغمورة حتى منتصف العصر العباسي قد كتبت لاحقًا واختزلت ابعادها الشبحية في خلافة أبو بكر وجزء من خلافة عمر بن الخطاب.
والبداية كانت مع ما يسمى ب(حروب الردة)
التي هي في واقعها حروب السلطة ضد المعارضة السياسية.حيث أرتكب خالد بن الوليد مدفوعًا بوصايا سلطوية تشدد على القتل والحرق والسبي، واحدة من أبشع الجرائم التي حار محبيه في تبريرها والتملص من تبعاتها الاخلاقية الى اليوم.
وهي الغدر بالصحابي مالك بن نويرة التميمي
قطع رأسه و وضعه تحت قدر طبخ واشعال النار فيه
واغتصاب زوجته ليلى بنت المنهال
وقتل المئات من قومه العزل رغم انهم كانوا يتفاوضون معه ولم يحاربوه!!
وقد تكاثرت بعدها قصص الحروب والغزوات بقيادة خالد بن الوليد، في المرويات الاسلامية.
ادناه بعض اشهر النماذج التي تتعارض فيها المعلومات مع المنطق والمعقول :
1. معركة أجنادين بين المسلمين والبيزنطيين في فلسطين عام 634 م
كان عدد أفراد جيش المسلمين 33 الف مقاتل
بينما عدد أفراد الجيش البيزنطي 90 الف مقاتل
أنتهت بإنتصار المسلمين الذين قتل منهم 450 شخص فقط، فيما كان قتلى البيزنطيين أكثر من 50 ألف قتيل!!
هذه المعلومات والأرقام على ذمة الواقدي المولود في العصر العباسي، دونها بعد قرن ونصف من الواقعة!!
2. معركة أُليّس (تذكرنا بأليس في بلاد العجائب) هي معركة أخرى ولكن هذه المرة دارت في العراق بين جيش المسلمين عام 633 م بقيادة خالد بن الوليد وجيش الفرس الساسانيين بقيادة جابان، وانتهت بإنتصار إسلامي ساحق.
والان لنراجع أرقام المعركة:
15 الف عدد أفراد جيش خالد بن الوليد
70 الف عدد أفراد الجيش الفارسي
قتل من جيش خالد ما يقارب 2000 مقاتل فقط
لكن الغريب والعجيب ان تتم إبادة معظم افراد الجيش الفارسي الضخم!!
3. معركة الثني عام 633 م وهي معركة أخرى في العراق ايضا بين جيش خالد بن الوليد والجيش الفارسي، وانتهت بإنتصار ساحق مرة أخرى لجيش خالد.
اما أرقام المعركة فهي كالتالي:
جيش خالد بن الوليد يتألف من 15 الف مقاتل
اما الجيش الفارسي فهو بين 50 الى 100 الف مقاتل
ولم تذكر المصادر أعداد قتلى المسلمين لكن وصفتها بالقليلة، فيما أشارت الى ان خسائر الجيش الفارسي تتراوح بين 35 الف الى 50 الف قتيل!!
4. معركة الحاضر بين الجيش الإسلامي والجيش البيزنطي عام 637 م في سوريا.
وانتهت كالعادة بإنتصار المسلمين، ولم تذكر فيها خسائر الطرفين، لكن ذكر أن الجيش الإسلامي يتكون من 17 ألف مقاتل، في مقابل الجيش البيزنطي الذي بلغ عديده 70 ألف مقاتل!
5. معركة الفراض عام 634 م في العراق، بين الجيش الاسلامي بقيادة خالد بن الوليد وجيش الامبراطورية الساسانية والامبراطورية البيزنطية ومن معهم من العرب المسيحيين.
ومرة أخرى وأخرى يقف عديد الجيش الإسلامي عند الرقم 15 ألف مقاتل، في مقابل جيش ضخم جدا يقدر ما بين 150 ألف الى 200 ألف مقاتل.
وبالطبع كان النصر حليف الجيش الذي يقوده بن الوليد، ولم تذكر خسائر الجيوش الساسانية البيزنطية المتحالفة لكنها كانت بعشرات الآلاف!
6. معركة الولجة عام 633 م في العراق، بين جيش خالد بن الوليد والجيش الفارسي.
كان عدد أفراد الجيش الإسلامي 15 ألف (لا أعرف سر ولعهم بهذا الرقم)، بينما كانت أعداد الجيش الفارسي تربو على 50 الف محارب.
أنتهت المعركة كما تذكر الروايات القرقوشية بخسارة الفرس وقتل أكثر من 20 ألف محارب فارسي!
7. معركة اليمامة التي وقعت في أرض جزيرة العرب عام 632 م، ضمن ما صار يسمى بحروب الردة، بين جيش خالد بن الوليد الذي يضم قرابة 13 ألف مقاتل وجيش مسيلمة الذي يتكون من 40 ألف مقاتل، وايضا غاب المنطق الذي تفرضه الاعداد، وانتصر جيش خالد بعد أن قتل من جيش مسيلمة أكثر من 21 ألف مقاتل، فيما لم يخسر خالد بن الوليد من افراد جيشه الا 1200 مقاتل بالتمام والكمال!
8. معركة اليرموك، وقعت عام 636 م في الشام، بين جيش المسلمين، وكان خالد بن الوليد أحد قادة هذا الجيش كما يُزعم، والجيش البيزنطي العرمرم.
وكان عدد أفراد الجيش الإسلامي بحسب من اوصل لنا أخبار هذه المعركة الحاسمة المفترضة هو 36 ألف مقاتل
مقابل جيش هائل ومجهز بأحدث الأسلحة آنذاك، لا يقل عدد افراده عن 240 ألف مقاتل.
وبسهولة يمكن أن نخمن المنتصر في هذه الحرب إعتمادا على ما سبق من حروب خاضتها المخيلة الاسلامية، حيث انكسر الجيش البيزنطي مخلفًا أكثر من 70 ألف قتيل مثواهم جهنم وبئس المصير، فيما لم يخسر الجيش الإسلامي سوى أربعة الآف قتيل، قطعوا تذكرة مباشرة وسريعة الى جنة الفردوس وحور العين!
الخلاصة..
أين حقيقة شخصية خالد بن الوليد من كل ما سبق بعيدًا عن الأسطرة واللامنطق والشعبويات التي ما قتلت ذبابة؟
الإجابة العلمية القاطعة هي:
لا يوجد أي دليل يعتد به، بل مهما كان ضعيفًا، يثبت وجود واقعي لشخصية خالد بن الوليد بالصورة الهلامية التي وصلت إلينا، في نطاق حراكها الزمني والميداني والتأريخي والسياسي.
ان خالد بن الوليد الذي قدمته الدراما المصرية والخليجية في افلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية هو للأسف شخصية وهمية بالكامل.
لا جدال في هذا، كما أنه لا يحول دون إفتراض وجود شخص يدعى خالد بن الوليد في بدايات الإسلام المبكر، لكنه بالطبع لم يكن بالصورة المنتفخة التي نعرفها اليوم.
إذن.. من نفخ في خالد بن الوليد ولماذا؟
الجواب يكمن في تحكم المخيلة الشعبية على بنى ومسارات السردية الاسلامية المتأخرة، في ظل جو من الصراعات السياسية والمذهبية الطاحنة داخل الاسلام، بالإضافة الى حاجة السلطة الغاشمة لدغدغة مشاعر جمهورها والتلاعب بقيمه من خلال إسطورة الفارس الذي لا يقهر (رغم أن خالدًا مسجلة عليه بعض الهزائم) حتى ولو كان هذا النموذج يفتقر للمعايير الاخلاقية والقيمية التي تميز الفرسان.
وأضيف لكل ما سبق ملاحظة ربما لم ينتبه لها أحد وهي ان أسم خالد كان رائجًا في جزيرة العرب، وان هناك أكثر من 50 صحابيًا تم تدوين بعض سيرهم، يحملون إسم خالد، وهؤلاء كانت لهم مواقف وأدوار كثيرة في المعارك التي خاضتها الجيوش الاسلامية أثناء خلافة أبو بكر وعمر.
وبالتالي من البديهي ان تختلط الأحداث في المرويات المتناقلة شفاها عبر الأجيال، لتصب بعض أفعال ومواقف هؤلاء "الخوالد" في بوتقة جمعية إسطورية واحدة، وهو ما يفسر بدرجة معقولة بعض النشاطات الميدانية المحدودة زمنيًا والمترامية الأبعاد جغرافيًا لخريطة المعارك التي خاضها خالد بن الوليد كما يزعمون.
https://telegram.me/buratha