الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب نظرة في إحياء مراسم عاشوراء لمؤلفه الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي: أن السلوك والحركات الإنسانية الواعية تحتاج إلى طائفتين من العوامل إحداهما عوامل المعرفة والثانية عوامل العواطف والأحاسيس، وبعد أن عرفنا مدى ما لحركة سيد الشهداء عليه السلام من دور مهم في سعادة الناس؛ فإننا سوف نلتفت إلى أن المعرفة وحدها لا تحقق فينا الحركة ومعرفة تلك الوقعة وتذكرها لا تقودنا إلى فعل مشابه لفعل الإمام الحسين عليه السلام، ولا تحملنا على اقتفاء اثره إلا إذا تحقق في أنفسنا الدافع, ثم على أساسه نغدو مشتاقين للقيام بما يشبه ذلك الفعل. إذن, تحقق مثل هذا الأمر يحتاج إلى طائفتين من العوامل. وجلسات البحث والتحقيق والخطابة توفر لنا الطائفة الأولى من تلك العوامل, أي إنها تزودنا بالمعارف اللازمة, لكن لابدّ لنا من الطائفة الثانية حتى يتم من خلالها تنمية العواطف وتقوية المشاعر، ومن الواضح أن للمعرفة ذاتها دوراً في تذكر ودراسة الواقعة، لكن الدور الأساسي تنهض به الأمور التي لها تأثير مباشر على العواطف والمشاعر، ويلاحظ ذلك عندما تعاد صياغة مشهد معين ويتأمل المرء في ذلك المشهد عن كثب فإن هذا يختلف كثيراً عمّا لو اكتفى بسماعه فقط. وفي هذا المضمار نشير إلى قصة واردة في القرآن الكريم تصلح أن تكون مثالاً على ما ذكرناه: فنحن نعلم أن النبي موسى عليه السلام قد دُعيَ من قبل الله تعالى إلى جبل الطور ليعبد الله تعالى هناك، وقيل لقومه: انّ موسى عليه السلام سوف يبقى هناك شهراً من الزمان, لكن إرادة الله سبحانه قد اقتضت أن يبقى هناك أربعين يوماً، يقول تعالى: "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ" (الاعراف 142). ولم يكن بنو إسرائيل عالمين بهذه الليالي العشر الإضافية, وقد كان هذا اختباراً لهم ليتبيّن مدى تمسكهم بإيمانهم. ولما انتهت الليالي الثلاثون جاء بنو إسرائيل إلى هارون عليه السلام وهو خليفة موسى عليه السلام وسألوه عن سبب عدم عودة أخيه؟ فأجاب بأننا منتظرون وسوف يعود سريعاً, وفي اليوم التالي لم يعد موسى عليه السلام، فكرروا السؤال عنه، وبدأ هاجس الخوف يلوح عندهم بالأفق، فظنوا أن تأخر موسى يعني أنه تركهم وذهب إلى حال سبيله, فاستغلّ السامري هذه الفرصة فصنع لهم عجلاً ودعا الناس إلى عبادته قائلاً: "هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى" (طه 88). لقد خدعهم مدعياً أن هذا العجل الذي صنعته لكم إله موسى الذي دعاه للمناجات في جبل الطور والذي بعث موسى بالرسالة إلى الناس, فوقع كثير من بني أسرائيل ساجدين لهذا العجل وراحوا يعبدونه. فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام مخبراً إياه بما جرى لقومه بنو إسرائيل وأنهم قد عبدوا العجل خلال غيبته عنهم في هذه الليالي العشر, وقد سمع موسى عليه السلام بهذا النبأ ولكنه لم يبد رد فعل عليه. انتهت الليالي الأربعون وعاد موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وهو يحمل الألواح السماوية التي أُنزلت عليه لكي يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى والعمل بالشريعة النازلة إليهم, عندما حضر موسى عليه السلام بينهم ونظر إليهم وهم يعبدون العجل تغيّر وضعه واستولى عليه الغضب. قال تعالى في ذلك: "وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ" (الاعراف 150). إذ سأل أخاه هارون معترضاً عليه قائلاً: لماذا سمحت للناس أن يسلكوا سبيل الضلال: "أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي" (طه 93). ولا نحتاج هنا إلى إكمال بقية القصة، لأن شاهدنا هو هذا القسم, ومنها يعلم الفرق الكبير بين العلم لوحده وبين المشاهدة.
ويستطرد الشيخ مصباح اليزدي في كتابه قائلا عن الفرق بين المعرفة والمشاهدة: إنّ الله سبحانه كان قد أخبر موسى عليه السلام بما جرى على قومه من عبادة العجل، ولم يكن لدى موسى عليه السلام أدنى شك في حدوث ذلك لأن المخبر هو الله تعالى أصدق الصادقين، وعندما سمع بذلك الخبر لم تبد عليه آثار الغضب لكن لما شاهد ما جرى بأم عينيه أبدى تأثره بالصورة المذكورة. فما نبتغيه هو بيان الفرق بين المعرفة والمشاهدة. إنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان على هيئة بحيث يتأثر بالشيء الذي يراه تأثراً لا يمكن أن يحصل من خلال سماعه لذلك الشيء أو علمه به. فإذا قمنا نحن بإعادة صياغة بعض مشاهد يوم عاشوراء سواء أكان ذلك في الإطار التقليديّ أم باستخدام الأساليب الحديثة وأخرجناها بصورة تمثيل أو فلم يجسم للناس أحداث ذلك اليوم الرهيب فإن لهذه المشاهد آثاراً لا تدانيها آثار الأقوال والمعلومات التي تعكس نفس الموضوع. لقد غرس الله تعالى في أنفسنا المحبة حتى نظهر الحب للذين يستحقون منا ذلك كمن يسدي لنا خدمات أو كمن يتمتع بكمال ما، فالإنسان مشدود بفطرته إلى الكمال، سواء أكان كمالا جسمياً أم عقليا أم نفسيا أم عاطفياً، فإذا شعر الإنسان بوجود كمال أو صاحب كمال فإنه يحبه ويتعلق به، وعلاوة على هذا فقد جعل الله البغض والعداوة في نفس الإنسان في نقطة مقابلة للمحبة. فكما أن الإنسان مفطور على أن يحب من قدم إليه خدمة، فهو مفطور أيضاً على أن يكره ويبغض من الحق به ضرراً. وليس هناك ضرراً أبلغ وأشدّ على الإنسان من هدم دينه، إذ إنّ الأضرار المادية الدنيوية لا أهمية لها عند المؤمن، لأن الدنيا برمتها لا قيمة لها عنده. فالعدو الحقيقي للإنسان هو من يحاول أن يسرق من الإنسان دينه، والعدو الذي لا يدخر جهداً في أن يسلب من الإنسان سعادته الابدّية هل يمكن السكوت عنه؟ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا" (فاطر 6) فهل يمكن الابتسام للشيطان؟ وهل يمكن الوئام والسلام معه؟ إذا تورط الإنسان في ذلك فسيصبح شيطاناً مثله. إذا كان من الضروري المحبة لأولياء الله فانه من الضروري أيضا العداوة لأعداء الله، هكذا هي فطرة الإنسان، وهذا هو عامل تكامل الإنسان وسعادته إذا لم تتحقق العداوة مع أعداء الله فإنّ سلوك الإنسان معهم يرق تدريجياً وتنشأ الصداقة فيما بينه وبينهم، ونتيجة لمعاشرته لهم سيتأثر بسلوكم وسيفتح قلبه وعقله لأقوالهم، ويغدو شيئاً فشيئاً شيطاناً مثلهم. قال تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" (الانعام 68) اذا رأيت أناساً يتحدثون عن الدين بصورة السخرية والاستهزاء وبطريقة مهينة فلا تقترب اليهم ولا تصغ إلى ما يقولون حتى ينتقلوا إلى موضوع آخر. وفي آية كريمة أخرى يقول الله تعالى: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً" (النساء 140).
ويستمر الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي متحدثا عن الولاء والبراءة: من يحب الذين يستهزؤون بالدين ويبتسم في وجوههم فان كلامهم سيؤثر فيه تدريجياً ويخلق الشك في نفسه، وعندئذ يصبح اظهاره للإيمان نفاقاً، إذ إنّ النفاق هو أن لا يكون الإيمان في قلب الإنسان ولكنه في الظاهر يدعي أنه مؤمن, فواحدة من النتائج التي تلحق المرء بركب المنافقين هو الوئام معهم, وإذا أصبح المرء منافقاً في الدنيا بسبب مجالسته ومعاشرته للكافرين فإنه في الآخرة سوف يكون رفيقهم في جهنم: "إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً" (النساء 140). وبعبارة أخرى: إنّ العداوة مع الأعداء هي نظام دفاعي في مقابل الاضرار والمخاطر، فكما أنّ جسم الإنسان مزود بعامل الجذب يجذب المواد النافعة، فإنّه مزود أيضا بنظام دفاعي يطرد السموم والجراثيم، ويقاومها ويقضي عليها, وهذه هي مهمة الكريات البيض في الدم، أما إذا أصيب النظام الدفاعي للبدن بالضعف فإن الجراثيم تنمو وتستفحل، ويؤدي ذلك إلى اصابة الإنسان بالأمراض، ولعله بالتالي يواجه الموت. فإذا قلنا: إنّ دخول الجراثيم إلى بدن الإنسان لا مانع منه, ورحبنا بها على أساس أنّها ضيف كريم يجب احترامه؛ فهل يبقى البدن سالماً في هذه الحالة؟
https://telegram.me/buratha