الدكتور فاضل حسن شريف
ويستمر الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة عن علاقة المجاز العقلي في القرآن: وفي قوله تعالى "والضحى (1) والليل إذا سجى (2) )" (الضحى 1-2)، تبرز دلالة المجاز العقلي في إسناد العامل المؤثر الى الزمان، فسجى بمعنى سكن ، والليل وإن وصف بالسكون فسكونه مجازي لأنه غير قابل للحركات المباشرة الت قد توصف بالهدوء حينا، وبالفعالية حينا آخر، وإنما أراد به سكون الناس عن الحركات، وخلودهم الى السبات، واستسلامهم الى الراحة. وقد يتوسع بعضهم في المجاز العقلي في القرآن حتى يخالف فيه الظاهر، أو يؤول تأويلا كلاميا، ونحن وإن أعرضنا عن الخوض في هذا الملحظ بالذات ، لأن القرآن أسمى علاء وبيانا من الجزئيات الكلامية إلا أننا نورد هنا نموذجا من ذلك لئلا تكون ثغرة في البحث، عسى أن لا يقال ذلك فيه، والكمال لله وحده. ففي قوله تعالى "إنّ الّذين ءامنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 62)، قال الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ) (وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح، ليس من الإيمان، لأن الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا، ثم عطف على كونهم مؤمنين. إنهم إذا عملوا الصالحات ما حكمها؟ قالوا: ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل، فقد ترك الظاهر. وكل شيء يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن: نحو قوله تعالى "فيهما فاكهة ونخل ورما" (الرحمن 68) ونحو قوله "وإذ أخذنا من النّبيّن ميثاقهم ومنك ومن نوح" (الاحزاب 7)، ونحو قوله "والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا" (الحديد 19)، وقوله "حم" (محمد 1). قالوا: جميع ذلك مجاز. ولو خلينا والظاهر، لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول. فإن قالوا : أليس الإقرار والتصديق من العمل الصالح؟ فلا بد لكم من مثل ما قلناه، قلنا: عنه جوابان؟ أحدهما: أن العمل لا يطلق إلا على أفعال الجوارح، لأنهم لا يقولون: عملت بقلبي، إنما يقولون: عملت بيدي أو برجلي. والثاني: أن ذلك مجاز، وتحمل عليه الضرورة. وكلامنا مع الإطلاق.
وعن المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسليقول الدكتور الصغير رحمه الله: يقول ابو الهلال العسكري (ت: 395 ه) (والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قوله تعالى "يوم يكشف عن ساق" (القلم 42) أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال: يوم يكشف عن شدة الأمر، وأن كان المعنيان واحدا، ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج الى الجد في أمره : شمر عن ساقك فيه ، وأشدد حيازمك له. فيكون هذا القول أوكد في نفسه من قولك: جد في أمرك). في كلمة "نسلخ" من قوله تعالى "وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار" (يس 37). فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك التحامهما بالسلخ، فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين الحقيقتين في الالتحام قبل السلخ والانفصال التام بعد السلخ، فكما هو هناك فهو هنا، وذلك جار على الاستعمال المجازي أيض ، ولكن بمنظور المشابهة، وهذه هي علاقة المشابهة التي تختص بالاستعارة، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل.
وعن انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن يقول الاستاذ محمد حسين الصغير: إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل مبحث علاقة المجاز بالجزء الآخر منها. وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان، هاتان الظاهرتان تلتمسان باعتبارهما دلائل فنية على صدق الدعوى، وبرمجة الموضوع، تلك الدلائل لا تعدو كونها إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا، وليست هي كل شيء، إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر الوصول اليه، أو الوقوف عليه، لبعد أغواره، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب. وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن، وذيوعه، ويقاس حينئذ عليه ما هو قريب اليه، إذ لا ضرورة لاتخام الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام. الظاهرة الاولى: وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم منه، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي، فلا عنت ولا تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله تعالى في كل من قوله تعالى: أ ـ "ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب" (ال عمران 8). ب ـ "فلمّا زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين" (الصف 5) فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه، بدعوى أنها إن لم تكن منه تعالى فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل المجاز والاتساع، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان، ولا يوقع في الضلالة والكفران، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي. وقد نصت الآية الثانية: أن الله تعالى يزيغ من زاغ، ونسبته اليه ظاهرة. إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له، على مجاز اللغة، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ، وقادهم الى الاعوجاج والميل، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه، جاز أن يقال: قد أزاغهم كما قال سبحانه بالنسبة للسورة "فزادتهم رجسا الى رجسهم" (التوبة 125) وفيما اقتصه عن نوح عليهالسلام "فلم يزدهم دعآءي إلاّ فرارا" (نوح 6) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم.
https://telegram.me/buratha