الصفحة الإسلامية

اشارات قرآنية في كتاب مجاز القرآن للدكتور محمد حسين الصغير (ح 8)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة للدكتور محمد حسين علي الصغير عن نماذج الاعجاز القرآني التي ذكرنا بعضها في الحلقة السابقة: جـ ـ وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء الى الأرض في قوله تعالى "بأنّ ربّك أوحى لها" (الزلزلة 5). والقضية تصور في مدرك عقلي محض، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله. وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء. ومؤدى ذلك واحد، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين. ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه اليه بين القابل له والمستعصي عليه، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى، فقال: فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام، وإن كان جمادا فهو تسخير. لهذا فقد ذهب الطبرسي (ت: 548 هـ) الى أن أوحى لها: أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها. من جهة تخفى. والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها؟ فاقتضى أن يأتيها الجواب "بأنّ ربّك أوحى لها" (الزلزلة 5). تحدث به الأرض نفسها تلقائيا ؛ فالإيحاء هنا مباشرة، ليلائم إسناد التحدث الى الأرض. وسر قوته في أنه كذلك.

ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله في ذكر نماذج قرآنية أخرى: 3 ـ ومسايرة المجاز للنفس الإنسانية لا تقف عند حد معين ، ولا تختص بأقوام دون آخرين، فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومع هذا فقد نلتقط بعض الشذرات النادرة ، والتحف الثمينة في هذه الظاهرة المتأصلة، ومن ذلك ما أورده تعالى في سورة الضحى من أقسام وأيمان كان للمجاز العقلي فيها نصيب متميز ، كما في قوله تعالى "والضّحى (1) والليل إذا سجى (2)" (الضحى 1-2). 4 ـ الخصائص العقلية في مجاز القرآن: في التعبير القرآني بعامة قد يرد الظاهر، وهو ما لا يحتاج الى كبير جهد في معرفته عادة، فإن تطلب جهدا ، فمعالم اللغة تيسره، ومصادر الأثر تفسره، وقرائن الأحوال تكشفه. أ ـ "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" (الرحمن 27). ب ـ "كل شيء هالك إلاّ وجهه" (القصص 88). ج ـ "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان" (المائدة 64). د ـ "تجري بأعيننا" (القمر 14). هـ ـ "ثمّ استوى الى السماء فسوّاهن سبع سماوات" (البقرة 29). و ـ "وجآء ربّك والملك صفّا صفّا" (الفجر 22). في هذه الآيات إطراء بالخلود تارة، وإشارة بالقوى والقدرة تارة أخرى، وإشعار بالعناية سواهما، وتشبث في الحركة والنقلة لمن حمل الأمر على ظاهره. ولكن الموضوع ينقلب الى تنزيه عن الصفات التي يتمتع بها الناس، والابتعاد عن المتعارف من الجوارح والأحداث وذلك على طريقة العرب في الاستعمال وسنن الكلام. في الآيتين (أ ، ب) أطلق الوجه باعتباره أشرف الأعضاء لمن يتصف بها وهي قابلة له، وأريد به هنا الذات القدسية دون إرادة التجسيم أو التركيب أو الكيفية أو المواصفات في الوجه وأجزائه، وهذا ما يفسره لنا المجاز مستندا فيه الى العرف العربي من وجه ، والى النظر العقلي من وجه آخر ، أما العرف العربي فهو يطلق الوجه ويريد به الذات اتصفت بالوجه أو لم تتصف ، باعتبار الوجه أشرف السمات الاعتبارية في حقائق الأشياء دون تصور جهة ما. كما أنه تعالى ليس له عين في الآية (د) بالمعنى الحقيقي أيضا ، فهو بصير دون عين ، وسميع دون أذن، والمراد بالآية : أي تجري بمرأى منا ، وبتسديد من رعايتنا ، وبنظرة من عنايتنا، دون تصور العين الباصرة، وما يقال بالنسبة للآيات المتماثلة التي تنص على ذكر الجوارح. وفي الآية (هـ) ثم استوى الى السماء "الرحمن على العرش استوى" (طه 5) تعبير مجازي يؤكد الخصائص العقلية في مجاز القرآن، للإشارة الى الاستعلاء والسيطرة والتمكن والنفوذ والحاكمية المطلقة على العوالم كافة علوية وسفلية ، مرئية وغير مرئية، دون تصور جلوس أو مكان أو كرسي يقبل إستواء الأجسام عليه. وفي الآية (و) ينظر الى المعنى بهذا المدرك ، فذاته القدسية لا تدرك ولا تعين ولا ترى ، وليست جسما متنقلا، يقبل الحركة والذهاب والمجيء ، وإنما ذلك مجيء أمره، وتجلي عظمته، وإنزال قضائه، وإرصاد إرادته الكائنة، وكأنه قادم ومتمثل في تلك اللحظات الحاسمة بذاته المتعالية على سبيل قوله تعالى "هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله" (البقرة 210). والإتيان ليس شأنه، ولا قابل عليه، ولا منظور إليه في السير أو التحرك أو الاتجاه، وعاينة العباد خير جارية عليه، فلا مكان، ولا مشادة، ولا نقلة، ولا مجيء، ولا إتيان، بل هو التحور اللغوي الذي أعطى الألفاظ معانيها الإضافية.

ويقول الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه: وحينما تكون الحقيقة القائمة أمرا حتميا، وكيانا مرئيا مع القدرة غير المتناهية، والخرق لعادات الأشياء ونواميس الطبيعة، يكون التجوز في القرآن قائما على أساس إضافة المعاني الجديدة لمن ليس شأنه أن يتصف بذلك ، ولكنه ارتفع لذلك المستوى بالنظر العقلي بهذا التعبير الموحي، أو تلك الحركة من الألوان، تأكيدا على حقيقته، وكأنه كذلك، فالحياة توهب الى الأرض كما توهب الى الإنسان، وليس للأرض حياة، ولكن زهرتها ونضرتها، وحيويتها، وخضرتها، وازدهارها واهتزازها، كان على سبيل من الحياة، وكأن ذلك حياة في واقعه ، وديمومة في الإيحاء بمقتضاه ، وفي هذا الملحظ نقف عند كل من قوله تعالى: أ ـ "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه الى بلد مّيّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور" (فاطر 9). ب ـ "ومن ءاياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنّه على كل شيء قدير" (فصلت 39). ج ـ "ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزّل من السّماء ماءً فيحيء به الأرض بعد موتها إن في ذلك لايات لقوم يعقلون" (الروم 24). ففي الآية (أ) ستجد الحياة قبال الموت بالنسبة للأرض ، والحياة والموت لها غير حقيقيين ولكنهما مجازيين. وفي الآية (ب) تتجلى عناية المجاز القرآني بتصوير هذه الظاهرة وتأكيدها بأمرين : إحياء الأرض وإحياء الموتى، وذلك بإيجاد العلاقة القائمة بين إحياء الأرض وهي موات، وإحياء الأجساد في البلى. وفي الآية (جـ) كان الاستدلال بلحاظ النظر الجدي في إراءته للبرق بين الخوف والطمع، وإنزاله للمطر من السماء فيحيي به الأرض، بعد موتها ، على سبيل المثال ما بيناه فيما سبق من إضفاء صفة الحسّ والنبض والحياة على من يؤهل له، وإطلاق ذلك عليه تجوزا من أجل التعقل والتدبر والتفكر بآيات الله وحججه الدامغة. ومجال القرآن في حججه البالغة، وتنزيلاته العقلية متواترة متكاثفة يقتسمها المجاز والحقيقة معا.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك