الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن الانسان "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ" ﴿الشورى 48﴾، و "وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ۚ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ" ﴿الزخرف 15﴾، و "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا" ﴿الأحقاف 15﴾، و "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" ﴿ق 16﴾، و "خَلَقَ الْإِنسَانَ" ﴿الرحمن 3﴾، و "خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ" ﴿الرحمن 14﴾، و "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا" ﴿المعارج 19﴾.
عن الموسوعة الحرة: محتوى سورة الانسان: هذه السورة رغم قصرها، فانّ لها محتويات عميقة ومتنوعة وجامعة، ويمكن بنظرة واحدة تقسيمها إلى خمسة أقسام: القسم الأوّل: يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة)، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته. القسم الثّاني: يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين. القسم الثّالث: تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات قصيرة ومؤثرة. القسم الرّابع: يشير إلى أهمية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق. القسم الخامس: جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان). لهذه السورة أسماء عديدة، أشهرها (الإنسان) (الدهر) و (هل أتى) وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة، قد ذكرت اسم (هل أتى) لهذه السورة.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: وفي تفسير القمي، عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عند فاطمة عليه السلام شعير فجعلوه عصيدة (العصيدة: شعير يلت بالسمن ويطبخ) فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثا فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام علي عليه السلام فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه علي عليه السلام الثلث وما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز وجل. أقول: القصة كما ترى ملخصة في الرواية وروى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسندا وعن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، وبإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام، وعن محمد بن العباس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيري عن عبد الله بن عباس، وفي المناقب، أنه مروي عن الأصبغ بن نباتة. وفي الاحتجاج، عن علي عليه السلام: في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه وفي ولده "إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً" (الانسان 5) إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا. وفي كتاب الخصال، في احتجاج علي على أبي بكر قال: أنشدك بالله أنا صاحب الآية "يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً" (الانسان 7) أم أنت؟ قال: بل أنت. وفي الدر المنثور، أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: سل واستفهم فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام. ثم قال: من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ومن قال: سبحان الله وبحمده كتبت له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ونزلت عليه السورة "هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ" (الانسان 1) إلى قوله :"مُلْكاً كَبِيراً" (الانسان 20). فقال الحبشي: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يدليه في حفرته بيده.
ويقول الشيخ جلال الدين الصغير في كتابه عصمة المعصوم عن تشكيل العصمة: بناء على ذلك نجد أن الآلية التي تتشكل بها العصمة، إنما تعتمد على عاملين أساسيين هما: الأول : ملاكات ومؤهلات ذاتية عالية المضامين، وهذه الملاكات تتقوّم أساساً بناء على اختيارية الإنسان في اكتسابها وسعيه إليها، مما يعني أن العصمة من حيث الأساس شأن اكتسابي يمكن السعي إليه ارادياً. الثاني: لطف إلهي يرقى بهذا الإنسان ليجزيه أجر ما أحسن عملاً، وهذا الأجر ليس هو الأجر الأخروي، بل هو الأجر الدنيوي، فلقد وعد الله سبحانه الذين آمنوا بمزية في الحياة الدنيا كما قال تعالى: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" (الجاثية 21)، وهذه المزية الممنوحة في المحيا وفي الممات، هي في واقع الحال تفرق بين من يجترح السيئات، وبين من لا يجترحها. لا يمكن تعقّل وجود التكليف من دون هذا الخيار، قد وضع على مفترق طريقين لا ثالث لهما: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً" (الانسان 3) وطريقا الشكر أو الكفر هما في الواقع نتاج تركيبة محتواه الخَلْقي، المعبّر عنه تارة عن خليط الروح الإلهية مع عنصر التكوين الآخر كالطين في حال البشر، والنار في حال الجن، وأخرى باعتبار ان نفسه قد ألهمت بخيارين متناقضين هما خيار التقوى أو الفجور "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس 7-8).
https://telegram.me/buratha