الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقات السابقة قال الله تعالى عن كلمة الكذب ومشتقاتها "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" ﴿الأنعام 21﴾ كذبا اسم، كذب فعل، لا أحد أشد ظلمًا ممَّن تَقَوَّلَ الكذب على الله تعالى، أو كذب ببراهينه وأدلته التي أيَّد بها رسله عليهم السلام، إنه لا يفلح الظالمون الذين افتروا الكذب على الله، و "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿الأعراف 147﴾، و "وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" ﴿الأعراف 176﴾، و "سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ" ﴿الأعراف 177﴾، و "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ" ﴿الأعراف 182﴾، و "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ۚ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ" ﴿الأنفال 54﴾، و "فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" ﴿التوبة 77﴾، و "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ﴿التوبة 90﴾، و "وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" ﴿يونس 41﴾، و "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" ﴿يونس 45﴾.
جاء في معاني القرآن الكريم: كذب قد تقدم القوم في الكذب مع الصدق وأنه يقال في المقال والفعال، قال تعالى: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ" (النحل 105)، وقوله: "وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" (المنافقون 1) وقد تقدم أنه كذبهم في اعتقادهم لا في مقالهم، ومقالهم كان صدقا، وقوله: "لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ" (الواقعة 2) فقد نسب الكذب إلى نفس الفعل، كقولهم: فعلة صادقة، وفعلة كاذبة، قوله: "نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ" (العلق 16)، يقال: رجل كاذب وكذوب وكذبذب وكيذبان. كل ذلك للمبالغة، ويقال: لا مكذوبة، أي: لا أكذبك، وكذبتك حديثا، قال تعالى: "الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ" (التوبة 90)، ويتعدى إلى مفعولين نحو: صدق في قوله: "لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ" (الفتح 27).
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: الكذب منشأ جميع الذنوب: و قد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب. فعن علي عليه السّلام أنّه قال: (الصدق يهدي إلى البر و البر يهدي إلى الجنّة). فالعلاقة بين الكذب و بقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه. و بعبارة أخرى: إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب، و الصدق يحدّه. و قد جسد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل و قال له: يا رسول اللّه، إنّي لا أصلي و أرتكب القبائح و أكذب، فأيّها أترك أوّلا؟. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (الكذب)، فتعهد الرجل للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يكذب أبدا. فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه: إن سألني رسول اللّه غدا عن أمري، ما ذا أقول له فإن أنكرت كان كاذبا، و إن صدقت جرى عليّ الحد. و هكذا ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا. و لذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب. الكذب منشأ للنفاق: لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب، و ما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر و الباطن. و الآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح: "فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ" (التوبة 77). الكذب من علائم النفاق، و هو لا يتفق مع الإيمان. الكذب يرفع الاطمئنان: إنّ وجود الثقة و الاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم، و الكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة و تقلب، و لذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق و ترك الكذب. و من خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّة عليهم السّلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.
تكملة للحلقات السابقة جاء عن مؤسسة السبطين العالمية عن الكذب: الكذب المرخص به: مع ما للكذب من الأضرار والأخطار التي مرّ ذكرها، وموقف الشريعة المتشدّد منه في التحريم، نرى هناك موارد متعددة منه قد رخَّصّ الشارع المقدس فيها، بل أوجبه في بعضها، وأهم هذه الموارد هي: 1 ـ الكذب في مشروع اصلاح ذات البين، الذي يتبنّاه فرد أو جماعة لحّل وفضّ الخصومات والنزاعات بين المسلمين أفراداً أو جماعات وإقرار الصلح والائتلاف بينهم، فقد أباح الشارع الاستفادة مِنْ الكذب في هكذا مشروع وأكّد على ذلك وشجّع عليه. 2 ـ الكذب في كيد العدو عند محاربته، فقد جعل الشارع أبعاداً وحدوداً معينةً لمكر العدو في الحرب ورخَّص في تلك الحدود والأبعاد ما حرّمه في غيرها، مثل الكذب والخديعه وغيرها. 3 ـ كذب الرجل على زوجته عند عِدَتهِ لها ليترضّاها بذلك للمحافظة على صفاء جو العائلة من الكدورات التي قد تعكّره أسباب يمكن دفعها بذلك الكذب. 4 ـ الكذب في دفع شرور وأضرار الظلمة، من قبيل إنقاذ النفس أو المال المحترم، أو العِرض، فذلك جائز سواءً كان ذلك (النفس أو المال المحترم أو العِرض) للكاذب أو لغيره من المسلمين. ويمكن اجمال هذه الموارد وغيرها في قاعدة كلية مفادها: أن الكذب يرخَّص به اِذا توقّف عليه دفع مفسدة أهم من مصلحة اِجتنابه، ولا يمكن دفع تلك المفسدة بالصدق. ويكون هذا الترخيص واجباً، اذا كان دفع تلك المفسدة واجباً من قبيل انقاذ النفس أو المال المحترم أو العرض، امّا اذا كان تحصيل المصلحة راجحاً فيكون الكذب عندئذٍ مباحاً من قبيل اصلاح ذات البين والكذب على الزوجة وكيد العدو. وينبغي في جميع ذلك الاحتراز عن الكذب ما امكن والاقتصار على المقدار الضروري. وإذا أمكن المواراة فهي مقدمة على الكذب، وكل ذلك مستفاد من الروايات العديدة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مالي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار كل الكذب مكتوب كذباً لامحاله إلاّ أن يكذب الرجل في الحرب، فإنَّ الحرب خِدعةٌ، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها). وقال الامام الصادق عليه السلام (كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلا في ثلاثة، رجلٌ كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجلٌ أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى ذاك، يريد بذاك الاصلاح بينهما، أو رجلٌ وعدَ أهله شيئاً وهو لا يريد أن يُتمّ لهم). وقال عليه السلام (ليس شئٌ مما حرّم الله إلا وقد أحلّهُ لِمَنِ اضطُّرَّ اليه). وقال أمير المؤمنين عليه السلام (إحلِفْ بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل). وقال عليه السلام (كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجلٌ كذب بين رجلين يصلح بينهما). وقال الامام الصادق عليه السلام (الكذب مذموم إلا في أمرين: دفع شرِّ الظلمة وإصلاح ذات البين).
تتميز اية المباهلة بسماحة وسلمية دين الاسلام "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا" (الانفال 61) حيث لم يطلب سبحانه وتعالى من نبيه مقاتلة نصارى نجران طالما لم يعتدوا وانما بالابتهال اي التفويض لامر الله باللعن على الكاذب الذي يقول عيسى ابن الله وليس عبده "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (المائدة 73). بالاضافة ان العقاب يحصل بعد التبليغ وليس قبله "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ" (الشورى 48).
https://telegram.me/buratha