الدكتور فاضل حسن شريف
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: و فيما يلي قرائن أخرى إضافة إلى ما ذكر في دعم و تأييد تفسير الآية 3 من سورة المائدة: أ- لقد ذكرت تفاسير الرازي و روح المعاني و المنار في تفسير هذه الآية أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يعش أكثر من واحد و ثمانين يوما بعد نزول هذه الآية، و هذا أمر يثير الانتباه في حد ذاته، إذ حين نرى أنّ وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة، و حتى في بعض روايات الشيعة، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام، و هو يوم غدير خم. إنّ هذا الحساب يكون صحيحا إذا لم ندخل يوم وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يوم غدير خم في الحساب، و أن يكون في ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيّام كل منهما (29) يوما، و نظرا لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل و بعد يوم غدير خم، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم. ب- ذكرت روايات كثيرة نقلتها مصادر السنّة و الشيعة أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم، و بعد أن أبلغ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين بولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، و من هذه الروايات: 1- ما نقله العالم السنّي المشهور ابن جرير الطبري في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم الصحابي المعروف، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب عليه السّلام. 2- و نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب ما نزل من القرآن بحق علي عليه السّلام عن أبي سعيد الخدري و هو صحابي معروف أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى في يوم غدير خم عليا منصب الولاية. و إنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" (المائدة 3) فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في تلك اللحظة (اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي و بالولاية لعلي عليه السّلام من بعدي) ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله).
ويستطرد الشيخ الشيرازي قائلا: 3- و روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ آية "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" (المائدة 3) نزلت عقيب حادثة غدير خم و العهد بالولاية لعلي عليه السّلام و قول عمر بن الخطاب: (بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كل مسلم). و جاء في كتاب الغدير إضافة إلى الروايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال. ورود في كتاب «إحقاق الحق» نقلا عن الجزء الثّاني من تفسير ابن كثير من الصفحة 14 و عن كتاب مقتل الخوارزمي في الصفحة 47 عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غدير خم. و نرى في تفسير البرهان و تفسير نور الثقلين عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق علي عليه السّلام أو في يوم غدير خم، و نقل كل هذه الروايات يحتاج إلى رسالة منفردة. و قد ذكر العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه المراجعات أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإمامين الباقر و الصّادق عليهما السّلام تقول بنزول هذه الآية في يوم غدير خم و إنّ جمهور السنّة أيضا قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم. يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات و الأخبار التي أكّدت نزول الآية- موضوع البحث- في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الآحاد لكي يمكن تجاهلها، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإسلامية المشهورة. و مع ذلك فإنّنا نرى بعضا من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير روح المعاني الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها، و قد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية، و قد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام و لم يلمح إليها بشيء، كما في تفسير المنار، و لعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل و الإنصاف، و إن قبلها عمل شيئا خلافا لميله و ذوقه.
وعن علاقة الآية 55 من سورة النور يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: و قد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالانتباه فالآية تقول: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً" (النور 55) و اللّه سبحانه و تعالى يقطع في هذه الآية وعدا على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض. و لمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، و نظرا إلى جملة "رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" (المائدة 3) الواردة في الآية الأخيرة موضوع البحث و التي نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السّلام، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز و يترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية، لأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه اللّه و وعد بترسيخ دعائمه و تعزيزه، و بعبارة أوضح أن الإسلام إذا أريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت عليهم السّلام. أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أن الآية الأولى قد أعطت للمؤمنين و عودا ثلاثة: أوّلها: الخلافة على الأرض. و الثّاني: تحقق الأمن و الاستقرار لكي تكون العبادة للّه وحده. و الثّالث: استقرار الدين الذي يرضاه اللّه في الأرض. و لقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في يوم غدير خم بنزول آية: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" (المائدة 3) فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي عليه السّلام الذي نصب وصيّا للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دلت عبارة "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ" (المائدة 3) على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: "وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" (المائدة 3) إنّ اللّه قد اختار الدين الذي يرتضيه، و أقرّه بين عباده المسلمين. و هذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه الشريف، و ذلك لأنّ عبارة آمَنُوا مِنْكُمْ لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في يوم غدير خم و سيتحقق على مدى أوسع و أعم في زمن ظهور المهدي عجل اللّه تعالى فرجه الشريف (و على أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها). و يدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة "الأرض" في القرآن الكريم، حيث وردت أحيانا لتعني جزءا من الأرض، و أخرى لتعني الأرض كلها، (فأمعنوا النظر و دققوا في هذا الأمر).
قوله تعالى "وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ" (المائدة 12) التّفسير: لقد أشارت هذه الآية أوّلا إلى قضية الوفاء بالعهد، و قد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، و ربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد و ذم نقضه، هي إعطاء أهمية قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة.
https://telegram.me/buratha