الدكتور فاضل حسن شريف
يستمر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي عنمحاورات و شبهات في واقعة غدير خم في كتابه الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل قائلا: 4- لم لم يستدل علي و أهل البيت عليهم السّلام بهذا الحديث؟ يقول بعض: لو كان حديث الغدير على عظمته صحيحا فلما ذا لم يستدل به علي عليه السّلام و أهل البيت عليهم السّلام و أصحابهم و محبّوهم عند اقتضاء الضرورة؟ ألم يكن من الخير لو أنّهم استندوا إلى مثل هذا السند المهم لإثبات حق علي عليه السّلام؟ هذا أيضا قول آخر ينبع من عدم الإحاطة بالمصادر الإسلامية في حقل الحديث و التّفسير و التّأريخ، إذ أنّ كثيرا من كتب علماء السنة قد ذكرت أن عليّا عليه السّلام و أئمّة أهل البيت عليهم السّلام و أتباعهم قد استدلوا فعلا بحديث الغدير. فهذا الخطيب الخوارزمي الحنفي في المناقب يروي عن عامر بن واثلة، قال: كنت على الباب يوم الشورى مع علي عليه السّلام في البيت و سمعته يقول: (لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم و لا عجميكم تغيير ذلك) ثمّ قال: (أنشدكم اللّه أيّها النفر جميعا أ فيكم أحد وحّد اللّه قبلي؟) قالوا: لا (ثمّ استمر في تعديد مناقبه و فضائله) إلى أن قال: (فانشدكم باللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب، غيري؟). قالوا: اللهم لا. هذه الرواية يذكرها الحمويني في فرائد السمطين في الباب 58، و ابن حاتم في الدر النظيم و الدار قطني، و ابن عقدة، و ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة. كذلك نقرأ في فرائد السمطين في الباب 58 أن عليا عليه السّلام استشهد بحديث الغدير أمام جمع من الناس في المسجد على عهد عثمان، و في الكوفة أيضا استند إلى هذا الحديث لتفنيد رأي الذين أنكروا خلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مباشرة. يقول صاحب كتاب الغدير: إنّ أربعة من الصحابة و أربعة عشر من التابعين قد رووا هذا الحديث حسب ما نقلته مصادر أهل السنة المعروفة. و كما يقول الحاكم النيسابوري في الصفحة 371 من المجلد الثّالث من المستدرك فإنّ عليا عليه السّلام قد استشهد بهذا الحديث يوم حرب الجمل أمام طلحة. كذلك في حرب صفين كما يقول سليم بن قيس الهلالي إنّ عليا كان في عسكره و أمام جمع من المهاجرين و الأنصار و القادمين من أطراف البلاد، فاستشهد بهذا الحديث فقام إثنا عشر من الذين أدركوا بدرا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أكّدوا أنّهم سمعوا الحديث من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و بعد علي عليه السّلام استند إلى هذا الحديث سيدة الإسلام فاطمة الزّهراء عليها السّلام و الإمامان الحسن و الحسين عليهما السّلام و عبد اللّه بن جعفر، و عمّار بن ياسر، و قيس بن سعد، و عمر بن عبد العزيز، و المأمون الخليفة العباسي. بل أنّ عمرو بن العاص في رسالة له إلى معاوية أراد أن يثبت لمعاوية فيها أنّه على علم تام بالحقائق الخاصّة بمكانة كل من علي عليه السّلام و معاوية بالنسبة للخلافة، فاستشهد صراحة بحديث الغدير، و قد نقله الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتابه المناقب صفحة 124 (على الذين يرغبون في المزيد من التوضيح بشأن استدلال علي عليه السّلام و أهل البيت و بعض الصحابة و غير الصحابة بحديث الغدير، أن يرجعوا إلى الصفحات 159- 213، من المجلد الأوّل من كتاب الغدير فقد أورد العلّامة الأميني رحمه اللّه أسماء 22 من الصحابة، و غير الصحابة ممن استدلوا بهذا الحديث).
ويستطرد الشيخ الشيرازي بقوله: 5- مفهوم الجملة الأخيرة من الآية يقولون: لو كانت الآية تخص تنصيب علي عليه السّلام في الخلافة و الولاية و ترتبط بحديث غدير خم، فما علاقة كلّ هذا بما جاء في آخر الآية: "إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ" (المائدة 67). للردّ على هذا الاعتراض يكفي أن نعرف أنّ لفظة الكفر في اللغة و في القرآن تعني الإنكار و المخالفة و الترك. فمرّة يقصد بها إنكار اللّه و نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مرّة يراد بها إنكار بعض الأحكام أو مخالفتها، ففي الآية (97) من سورة آل عمران فيما يرتبط بالحج نقرأ: "وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ" (ال عمران 97) و الآية (102) من سورة البقرة تصف السحرة و الذين تلوثوا بالسحر بأنّهم كفّار: "وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" (البقرة 102)، و في الآية (22) من سورة إبراهيم نرى أنّ الشيطان يندد يوم القيامة بأولئك الذين أطاعوه و اتبعوه و يقول لهم: إنكم بعد إطاعتكم أوامر اللّه قد جعلتموني شريكا له، و إني اليوم أكفر بعملكم ذاك: "إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ" (ابراهيم 22)، و عليه، فلا عجب أن يطلق القرآن صفة الكفر على الذين يخالفون مسألة الولاية و الخلافة. 6- هل يمكن وجود وليّين في وقت واحد؟ من الذرائع الأخرى التي تذرعوا بها للنكوص عن هذه الحديث المتواتر و الآية المذكورة، هي أنّه إذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد نصب عليا عليه السّلام يوم الغدير للخلافة و الولاية، فإن ذلك يعني وجود وليّين و قائدين في وقت واحد. إلّا أنّ الالتفات إلى الظروف الزمانية الخاصّة بنزول الآية و ورود الحديث، و كذلك القرائن المستوحاة من خطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تنفي هذه الذريعة أيضا، إنّنا نعلم أنّ هذا الحدث قد جرى في أواخر عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّه كان يبلغ الناس بآخر الأوامر لأنّه قال (و إنّي أوشك أن أدعى فأجيب). إنّ من يقول هذا لا شك في أنّه بصدد تعيين خليفته، و إنّه يضع الخطط للمستقبل، لا للحاضر، كذلك من الواضح، إنّه لا يقصد إعلان وجود قائدين أو وليّين في وقت واحد. و ممّا يلفت النظر أنّ بعض علماء أهل السنة الذين يطرحون هذا الاعتراض، يتقدم بعضهم برأي يناقض ذلك تماما، و هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد عين عليا عليه السّلام في الخلافة و الولاية، و لكنّه لم يعين تأريخ التعيين، فما المانع أن يأتي ذلك بعد ثلاثة خلفاء؟ إنّه لأمر محير حقّا يتشبثون بألوان المتناقضات لكي يبتعدوا عن حقيقة القضية ألا يسأل هؤلاء أنفسهم: إذا أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعين خليفته الرابع ضمانا لمستقبل المسلمين، فلما ذا لم يعين الخليفة الأوّل و الثّاني و الثّالث في يوم الغدير، و هم يتقدمون الرّابع و تنصيبهم مقدم على الأوّل؟ و مرّة أخرى نكرر مقولتنا السابقة لنختم به بحثنا هذا، و هي أنّه لو لا وجود نظرات خاصّة في الأمر، لما حدثت كل هذه الاعتراضات و الإشكالات بشأن هذه الآية و هذا الحديث، كما لم يحدث شيء من ذلك في غيرهما.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (المائدة 3) بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقا: الأولى منهما تقول: "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ" (المائدة 3). و الثّانية هي: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" (المائدة 3). متى أكمل اللّه الدين للمسلمين: إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه و حقيقته كلمة "اليوم" الواردة فيهما. فأيّ يوم يا ترى هو ذلك "اليوم" الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة المصيرية، و هي يأس الكفار، و إكمال الدين، و إتمام النعمة، و قبول اللّه لدين الإسلام دينا ختاميا لكل البشرية؟ لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال، و ممّا لا شك فيه و لا ريب أن يوما عظيما في تاريخ حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كهذا اليوم لا يمكن أن يكون يوما عاديا كسائر الأيّام، و لو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية. و قيل أنّ بعضا من اليهود و النصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لاتّخذوه عيدا لأنفسهم و لاهتموا به اهتماما عظيما. و لنبحث الآن في القرائن و الدلائل و في تاريخ نزول هذه الآية و تاريخ حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الروايات المختلفة المستفادة من مصادر إسلامية عديدة، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟ ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه اللّه الأحكام المذكورة في نفس الآية و الخاصّة بالحلال و الحرام من اللحوم؟ بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إعطاء تلك الأهمية العظيمة، و لا يمكن أن يكون سببا لإكمال الدين، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها، كما لا يمكن القول بأن الأحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإسلام، و بعبارة أخرى فإنّ نزول أحكام الحلال و الحرام من اللحوم لا يترك أثرا في نفوس الكفار، فما ذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا و بعضها الآخر حراما؟ فهل المراد من ذلك "اليوم" هو يوم عرفة من حجّة الوداع، آخر حجّة قام بها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (كما احتمله بعض المفسّرين)؟ و جواب هذا السؤال هو النفي أيضا، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سببا ليأس الكفار و لو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة قبل هذا اليوم أيضا، و لو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك شيئا مهمّا مخيفا بالنسبة للكفار.
https://telegram.me/buratha