الدكتور فاضل حسن شريف
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: محاورات و شبهات: ليس ثمّة شك في أنّ هذه الآية "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" (المائدة 3)، لو لم تكن قد نزلت في خلافة علي عليه السّلام، لأكتفي فيها- كما قلنا- بأقل ممّا ورد فيها من روايات و من قرائن موجودة في الآية نفسها، فكثير من كبار المفسّرين المسلمين يكتفون في تفسير سائر الآيات القرآنية حتى بعشر الرّوايات الموجودة بشأن هذه الآية، أو أقل من ذلك. و لكن ممّا يؤسف له أنّ حجاب التعصب قد حال دون قبول كثير من الحقائق. إنّ الذين يحملون لواء المخالفة تجاه تفسير هذه الآية و الرّوايات الكثيرة الواردة بشأن نزولها، و الرّوايات المتواترة بخصوص أصل حادثة الغدير، ينقسمون إلى قسمين: قسم حمل منذ البداية روح العناد و التعنت، و حمل بشدّة على الشيعة بالإهانة و السب و الشتم. و آخرون حافظوا إلى حد ما على الروح العلمية في البحث و التحقيق، و تابعوا القضية عن طريق الاستدلال، و لذلك فهم يعترفون بجانب من الحقائق، و لكنّهم بعد إيرادهم بعض الإشكالات- التي ربّما كانت نتيجة لظروفهم الفكرية الخاصّة يتركون الوقوف عند الآية و الرّوايات المرتبطة بها. و النموذج البارز الذي يمثل القسم الأوّل هو ابن تيمية في كتابه منهاج السنة حيث يبدو فيه كمن يغمض عينيه في رابعة النهار و يضع أصابعه في أذنيه بشدّة، ثمّ ينادي: أين الشمس؟ فلا هو مستعد أن يفتح طرفا من عينه ليرى بعض الحقائق، و لا هو يرضى برفع أصابعه عن أذنيه كي يستمع الى ضجيج المحدثين و المفسّرين المسلمين، بل يستمر في سبه و شتمه و إهاناته. إنّ دافع هؤلاء هو الجهل و عدم الاطلاع و التعصب المقرون بالعناد، ممّا دفع بهم إلى إنكار البديهيات و الواضحات التي لا تخفى على أحد. لذلك فنحن لا نجشم أنفسنا عناء نقل أقوالهم، و لا نحمل القراء عناء سماع إجاباتهم، فما ذا يمكن أن يقال لمن ينبري بكل وقاحة لتجاهل هذا الحشد الكبير من كبار علماء الإسلام و المفسّرين و معظمهم من أهل السنة من الذين أعلنوا أن تلك الآية قد نزلت بشأن علي عليه السّلام فيدعي متعاميا عن الحقّ أن أحدا من العلماء لم يقل شيئا كهذا في كتابه و ما قيمة قوله هذا ليستحق البحث فيه؟ من الجدير بالذكر أنّ ابن تيمية، في محاولته تبرئة نفسه قبال كل هذه الكتب المعتبرة التي تقول بنزول هذه الآية بحق علي عليه السّلام، يلجأ إلى تعبير مضحك، و يكتفي بقوله: (إن العلماء الذين يعرفون ما يقولون لا يرون أن هذه الآية قد نزلت في علي) فالظاهر (أنّ العلماء الذين يعرفون ما يقولون) هم أولئك الذين يضمون أصواتهم إلى أصوات ابن تيمية و عناده المفرط. أمّا من لا يضمّ صوته إليه فإنّه عالم لا يدرك ما يقول. و هذا منطق من ألقى العناد و حبّ الذات على عقله ظلالا مشؤومة، فلندع هؤلاء.
أمّا الشبهات التي أوردها القسم الثّاني من العلماء، فمنها ما يجدر بالبحث، و سوف نتناولها فيما يلي: 1- هل معنى المولى هو الأولى بالتصرف؟ إنّ أهم اعتراض يورد على حادثة الغدير هو أنّ من معاني مولى الصديق و النصير و المحب، و من الممكن أن تكون الكلمة هنا بهذا المعنى أيضا. ليس رد هذا الاعتراض بصعب، لأنّ كل ناظر منصف يدرك أن تذكير الناس بمحبّة علي عليه السّلام لا يقتضي كل تلك المقدمات، لا إلقاء خطبة في تلك الصحراء القاحلة و تحت ذلك الحر المحرق، و إيقاف تلك الجموع و انتزاع الاعترافات المتوالية منهم. إنّ حب المسلم لأخيه المسلم من المفاهيم الإسلامية الواضحة التي تقررت منذ بداية الدعوة. ثمّ إنّ هذا الأمر لم يكن من الأمور التي لم يبلغها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى ذلك الوقت، بل ثبّته و أعلنه مرارا. كما إنّه لم يكن من الأمور التي تثير قلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تخوفه حتى يطمئنه اللّه تعالى بشأنه. و لا كان أمرا على هذا القدر من الأهمية بحيث تتخذ الآية هذا الأسلوب الشديد في مخاطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: "وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ" (المائدة 67). كل هذه تدل على أنّ الأمر كان أكثر من مجرّد محبّة عادية تلك المحبّة التي كانت من أوليات الأخوة الإسلامية منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية. ثمّ، إذا كان القصد هو تبيان مثل هذه المحبة العادية، فلما ذا يعمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى استخلاص الاعترافات من الحاضرين قبل بيان قصده، فيسألهم: (أ لست أولى بكم من أنفسكم)؟ وردت هذه العبارة في روايات كثيرة. أ يتناسب هذا مع بيان محبّة عادية؟ ثمّ إنّ المحبّة العادية لا تستدعي من الناس، و حتى من عمر نفسه، أن يهنئ عليا عليه السّلام بقوله: (أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة). هذا القسم من الحديث يعرف بحديث (التهنئة) و قد أورده كثير من كبار علماء الحديث و التّفسير و التّأريخ من أهل السنة، عن طريق عدد من الصحابة، مثل: ابن عباس، و أبي هريرة، و البراء بن عازب، و زيد بن أرقم. و قد نقل العلّامة الأميني رحمه اللّه هذا الحديث في المجلد الأوّل من كتابه الغدير عن ستين عالما من علماء أهل السنة. حبّ المسلم واجب، و عليّ كسائر المسلمين، و يجب حبّه، و ليس في ذلك شيء جديد يستوجب التهنئة في ذلك اليوم و في آخر سنة من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ إنّ هناك ارتباطا بين حديث (الثقلين) و عبارات وداع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موالاة علي عليه السّلام، و إلّا فإنّ حبّ علي عليه السّلام حبّا عاديا لا يستدعي أن يجعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مصافّ القرآن أ فلا يرى المنصف المحايد في التعبير الوارد في حديث الثقلين أنّ المسألة تتعلق بالقيادة، لأنّ القرآن هو القائد الأوّل للمسلمين بعد رحيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل البيت عليهم السّلام هو القائد الثّاني؟ (حديث الثقلين) من الأحاديث المتواترة التي وردت في كتب أهل السنة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري، و زيد بن أرقم، و زيد بن ثابت، و أبو هريرة، و حذيفة بن أسيد، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و عبد اللّه بن حنطب، و عبد بن حميد، و جبير بن مطعم و ضمرة الأسلمي، و أبو ذر الغفاري، و أبو رافع، و أم سلمة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
ويستمر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي متحدثا عن محاورات و شبهات في واقعة غدير خم: 2- ترابط الآيات: قد يقال أحيانا إنّ الآيات السابقة و اللاحقة على هذه الآية تخص أهل الكتاب و مخالفاتهم. و هذا ما يقول به صاحب تفسير المنار في المجلد 6 صفحة 466 و يصر على ذلك. و لكن لا ضير في ذلك كما قلنا في تفسير الآية نفسها لأنّ اختلاف لحن الآية يختلف عن مواضيع الآيات التي قبلها و بعدها. و ثانيا سبق أن قلنا مرارا أن القرآن ليس كتابا أكاديميا يلتزم في مواضيعه أسلوب التبويب و التقسيم إلى فصول و فقرات معينة، بل إنّ آياته نزلت بحسب الحاجات و الحوادث و الوقائع المختلفة الطارئة. لذلك نلاحظ أنّ القرآن في الوقت الذي يتكلم عن إحدى الغزوات، ينتقل إلى ذكر حكم من الأحكام الفرعية مثلا و في الوقت الذي يتحدث عن اليهود و النصارى، يخاطب المسلمين و يذكرهم بأحد القوانين الإسلامية السابقة. (راجع بحثنا في بداية تفسير هذه الآية لزيادة التوضيح). من العجيب أنّ بعض المتعصبين يصرّون على القول بأنّ هذه الآية قد نزلت في أوائل البعثة، مع أن سورة المائدة نزلت في أواخر عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فإذا قالوا: إن هذه الآية وحدها نزلت في مكّة في أوائل البعثة، ثمّ أدخلت في هذه الآية للتناسب نقول: إن هذا على عكس ما تبحثون عنه تماما، لأننا نعرف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوائل البعثة لم يصطدم باليهود و لا بالنصارى. و عليه فإن ارتباط هذه الآية ينقطع بما قبلها و ما بعدها من آيات (تأمل بدقّة). هذه كلها أدلة على أن هذه الآية قد تعرضت إلى هبوب عواصف التعصب، فأحاطت بها بعض علامات الاستفهام ممّا لا يعتور آيات مشابهة أخرى أبدا. أمّا هذه الآية فكل يحاول من جهة أن يتشبث بما حرفها عن مسيرها. 3- أتذكر الصّحاح كلّها هذا الحديث؟ يقول بعضهم: كيف يمكن قبول هذا الحديث مع أنّه لم يرد في صحيحي مسلم و البخاري؟ و هذا من عجائب القول أيضا: فهناك: أوّلا: كثير من الأحاديث المعتبرة التي قبل بها أهل السنّة مع أنّها ليست في صحيحي مسلم و البخاري، فهذا الحديث ليس الأوّل من نوعه في هذه الحالة. ثانيا: هل أنّ هذين الصحيحين هما الكتابان الوحيدان الموثقان عندهم، مع أنّ هذا الحديث قد ورد في سائر الكتب الأخرى المعتبرة عندهم، و حتى في بعض الصحاح الستة (وهي التي يعتمدها أهل السنة)، مثل سنن ابن ماجة و مسند أحمد. و هناك علماء مثل الحاكم النيسابوري و الذهبي» و ابن حجر اعترفوا بصحة الكثير من طرق هذا الحديث، على الرغم ممّا عرف عنهم من التعصب. لذلك فلا يستبعد أن يقع البخاري و مسلم تحت ضغط السياسة الذي ساد زمانهما، فلم يستطيعا، أو لم يشاءا أن يقولا ما لا يتلاءم و رغبة سلطات زمانهما في كتابيهما.
https://telegram.me/buratha