الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة للدكتور محمد حسين علي الصغير عن الخصائص النفسية في مجاز القرآن: أنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ المركزي، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس، أو إلهاب العاطفة، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان، وناظرتان الى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية. أ ـ في توجيه النفس نحو الترغيب تقف على "قاصرات الطرف" في حكايتها المجازية من قوله تعالى: "وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنّهن بيض مكنون (49)" (الصافات 48-49). والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة ، ولكنك ترى ما في الوصف ، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور ، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن اليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية، ويتطلع اليها الخيال متشوقا مع نقاء الصورة ، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة الى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة، دون التردد في النظر الى هذا وذاك، وأضاف الى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه، وتزايد ستره ، بأنه في كن عن التبرج ومنعة من الاستهتار. ب ـ وأما في التنفير، فتزداد النفس عزوفا، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا، حتى يبدوا الإشمئزاز منها واضحا، والاستهانة يوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي (ما تذر من شيء أتت علي ) من قوله تعالى: "وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم (42)" (الذاريات 41-42). سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا، وكيف نفر منها طبعك فرارا، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام (ما تذر) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة (أتت) حتى جاءت بعذاب الاستئصال. فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء (أتت عليه) كالورق الجاف المتحطم، نظرا لشدة عصفها، وسرعة تطايرها، وخفة مرورها.
وعن نماذج المجاز القرآني يقول الدكتور الصغير رحمه الله: وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي: 1 ـ في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر، والفكر بالعاطفة، والعاطفة بالنفس. ولعل خير مايمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى: أ ـ "وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مّطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان" (النحل 112) ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها، فعبر مجازا عن طريق إطلاق أسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان. وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء، فكلاهما من الصور النفسية: ب ـ "مثل الّذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف" (ابراهيم 18). فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما: الأولى: إسناد الاشتداد الى الريح، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها، فهي فاعلة متحركة، دائبة، متموجة، طاغية، مطاوعة، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني ، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا ، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز، لأن تسخيرها بالله وحده ، فلا إرادة للريح ولا طواعية، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية، فأعارها مناخا جديدا ، وكأن الريح قائمة، والجري على أشده، والحركة ذاتية. الثانية: إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي ، فقد أسند عصف الريح الى اليوم ، وهو دال على زمان من الأزمان ، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز ، وهو كذلك ، وهذا أيضا مما نظر فيه الى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم ، وعصف ذلك اليوم ، وحديث ذلك اليوم ، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف، فأقام اليوم مقام المضاف المذوف في التقدير اللغوي الأصل، فهو يوم ذو عصف إن صح ما تأولوه. وقد يكون هذا الإدارك على سبيل التعبير عن شدة الأمر، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم، مما يهم الإنسان، فارتبط الحدث به نفسيا، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في هوله تعالى: "فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا" (المزمل 17). يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا: (ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث، صح أن يسند الشيب إليه).
ويستمر الدكتور محمد حسين الصغير عن نماذج الاعجاز القرآني: 2 ـ وإذ يوصلنا الى يوم القيامة ، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم، ومنسوبا الى عوالمه الصامتة، وإذا بها ناطقة تتكلم ، ومفصحة تعرب عما في الدخائل، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى: "يومئذ تحدّث أخبارها" (الزلزلة 4). والضمير عائد الى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة، وتقدير الكلام عندهم: تحدث الأرض أخبارها، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بألته، وذو اللسان بأداته، لا الجماد بعجمته، فهل هو تمثيل يعني: أن ما يحدث في ذلك اليوم ، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة ، والشدائد تثير الهلع في النفس ، والمنظور هنا نفساني لا شك ، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان ، بعد زلزلة الأرض، وإخراج الأثقال، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة، فهو يتسائل في حيرة وعجب واستغراب: "وقال الأنسان ما لها" (الزلزلة 3) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها، والأرض بكل مواقعها: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار" (ابراهيم 48) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث، فهي تتحدث عنها، وتفصح عن أهوالها، كما يقال: رزء يعبّر عن كارثة، وخطب ينبي عن شدة، وليس الرزء معبرا حقيقة، ولا الخطب بمنبىء. ب ـ إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة ، من قول كما في قوله تعالى: "يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مّزيد" (ق 30). أو فعل وقوة كقوله تعالى: "إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (7) تكاد تميّز من الغيظ (8)" (الملك 7-8)، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى: "يا أيها الناس أتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد (2)" (الحج 1-2) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول، وتستمع وتجيب، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا. وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور، أو تتميز من الغيظ. وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها ، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب ، حتى تضع كل ذلت حمل حملها. إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة، وسيّرها بهذه الإرادة التامة تنبيها للضمائر ، وتوجيها للعقول، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلب عن رضيعها، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها. إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ونحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان. دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام.
https://telegram.me/buratha