الصفحة الإسلامية

هبوط آدم عليه السلام ومفهوم الهبوط في القرآن الكريم (ح 2)


الدكتور فاضل حسن شريف

تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن كلمة هبوط ومشتقاتها "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ" ﴿الأعراف 13﴾ فَاهْبِطْ: فَ حرف زائد، اهْبِطْ فعل، قال الله لإبليس: فاهبط من الجنة، فما يصح لك أن تتكبر فيها، فاخرج من الجنة، إنك من الذليلين الحقيرين، و "قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ" ﴿الأعراف 24﴾ قال تعالى مخاطبًا آدم وحواء لإبليس: اهبطوا من السماء إلى الأرض، وسيكون بعضكم لبعض عدوًا، ولكم في الأرض مكان تستقرون فيه، وتتمتعون إلى انقضاء آجالكم، و "قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" ﴿هود 48﴾ اهبط فعل، قال الله: يا نوح اهبط من السفينة إلى الأرض بأمن وسلامة منَّا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك، و "قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ" ﴿طه 123﴾ اهْبِطَا: اهْبِطَ فعل، ا ضمير، قال اهبطا: أي آدم وحواء بما اشمتلنا عليه من ذريتكما، قال الله تعالى لآدم وحواء: اهبطا من الجنة إلى الأرض جميعًا مع إبليس، فأنتما وهو أعداء، فإن يأتكم مني هدى وبيان فمن اتبع هداي وبياني وعمل بهما فإنه يرشد في الدنيا، ويهتدي، ولا يشقى في الآخرة بعقاب الله.

جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً" (البقرة 38) سبب تكرار جملة "اهبطوا": الأمر بالهبوط تكرر في الآيتين: 36 "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" (البقرة 36) و 38 من هذه السّورة، أي قبل توبة آدم و حواء و بعدها. للمفسرين رأيان في سبب التكرار، بعضهم قالوا للتأكيد، و آخرون قالوا إن موضوع الجملة الاولى يختلف عن موضوع الجملة الثانية. و الظاهر أن الجملة الثانية توضح لآدم مسألة عدم انتفاء الأمر بالهبوط في‌ الأرض بعد قبول التوبة، و عدم الانتفاء هذا يعود إمّا إلى أن آدم قد خلق منذ البداية لهذا الهدف، أو لأن هذا الهبوط أثر وضعي لعمله. و هذا الأثر الوضعي لا يتغير بالتوبة. من هم المخاطبون في جملة "اهبطوا"؟ الضمير في "اهبطوا" للجمع، بينما عدد المخاطبين اثنان فقط، هما آدم و زوجه. و الجمع هنا ناظر إلى النتيجة التي تستتبع هبوط آدم و حواء في الأرض. فأبناؤهما و أجيال البشر بعد هما سيستقرون على هذه المعمورة. ما هو الهبوط؟ "الهبوط" في اللغة بمعنى النّزول الإجباري، كسقوط الصخرة من مرتفع ما، و عند ما تستعمل في حقّ الإنسان فإنّها تعني الإبعاد و الإنزال عقابا له. و بملاحظة أنّ أدم قد خلق للحياة على وجه الأرض، و كانت الجنّة أيضا بقعة خضراء و فيرة النعمة من هذا العالم، فإنّ هبوط و نزول آدم هنا يعني النّزول المقامي لا المكاني، أي إنّ اللّه سبحانه قد نزّل مقامه لتركه الأولى، و حرمه من كلّ نعم الجنّة تلك، و ابتلاه بمصائب هذه الدنيا و متاعبها. و ممّا يستحقّ الالتفات أنّ المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنّى (اهبطا) أي‌ اهبطا كلاكما، و من الممكن أن يكون المراد آدم و حواء، و إذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الاخرى، فلأنّ الشيطان قد أشرك معهما في الخطاب، لأنّه هو الآخر قد طرد من الجنّة. يستفاد من آيات القرآن أن آدم خلق للعيش على هذه الأرض. لكنّ اللّه شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنّة، و هي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، و خالية من كل ما يزعج آدم. لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض و صعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، و من أجل تأهيل آدم لتحمل مسئوليات المستقبل، و لتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات و التكاليف الإلهية في تحقيق سعادته، و لإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، و لتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض. و كان من الضروري أيضا أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى اللّه بعد المعصية. فمعصية اللّه لا تسدّ إلى الأبد أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع و يعاهد اللّه أن لا يعود لمثلها، و عند ذاك يعود إلى النعم الإلهية. ينبغي أن ينضج آدم عليه السّلام في هذا الجوّ إلى حد معيّن، و أن يعرف أصدقاءه و أعداءه، و يتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

جاء في مركز الابحاث العقائدية: سؤال: أين جنه آدم هل في السماء أم في الأرض؟ إن قلنا في الأرض كيف يقول الله عزوجل اهبطوا وهذا دليل على النزول وإن قلنا في السماء كيف والله عزوجل يقول إني جاعل في الأرض خليفة؟ الجواب: يقول صاحب الميزان: وأنت إذا تدبرت هذه القصة (قصة الجنة) وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والاستقرار في الأرض والحياة فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا. وأن التوبة ثانيا : تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، وحياة سماوية. وهذا هو المستفاد من تكرار الامر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى "وَقُلنَا اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة 36) وقال تعالى "قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى" (البقرة 38). وتوسيط التوبة بين الامرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرار هما فيها قبل ذلك. يشعر بذلك أيضا قوله تعالى "وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَم أَنهَكُمَا عَن تِلكُمَا الشَّجَرَةِ" (الاعراف 22) الآية بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم. واعلم أن ظاهر قوله تعالى: "وَقُلنَا اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة 36)، وقوله تعالى: "قَالَ فِيهَا تَحيَونَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنهَا تُخرَجُونَ" (الأعراف 25) أن نحوه هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، وان هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الانسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها. فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية. ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.

في الحديث أن الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبي أكانت عند هبوط جبرئيل؟ فقال: لا وإنما ذلك عند مخاطبة اللّه عز وجل إياه بغير ترجمان وواسطة. كتاب من هدي القرآن للسيد محمد تقي المدرسي: وقد انزل الهدى من عند الله مع اول بشر اهبط الى الارض، فإذا اتبعه البشر فلا ضلال ولا شقاء (وإذا استكبر فقد ضل علميا وشقى حياتيا). قال الله تعالى: "قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى" (طه 123).

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك