الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن كلمة هبوط ومشتقاتها "فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ" ﴿البقرة 36﴾ اهْبِطُوا: اهْبِطُ فعل، وا ضمير، وقال الله لهم: اهبطوا إلى الأرض، يعادي بعضكم بعضًا أي آدم وحواء والشيطان ولكم في الأرض استقرار وإقامة، وانتفاع بما فيها إلى وقت انتهاء آجالكم و "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" ﴿البقرة 38﴾ قلنا اهبطوا منها: من الجنة، قال الله لهم: اهبطوا من الجنة جميعًا، وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة ما فيه هدايتكم إلى الحق. فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا، و "اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ" ﴿البقرة 61﴾ قال موسى مستنكرًا عليهم: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا، وتتركون هذا الرزق النافع الذي اختاره الله لكم؟ اهبطوا من هذه البادية إلى أي مدينة، تجدوا ما اشتهيتم كثيرًا في الحقول والأسواق، ولما هبطوا تبيَّن لهم أنهم يُقَدِّمون اختيارهم في كل موطن على اختيار الله، ويُؤْثِرون شهواتهم على ما اختاره الله لهم؛ لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس، و "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" ﴿البقرة 74﴾ يهبط فعل، ومن الحجارة ما يسقط من أعالي الجبال مِن خشية الله تعالى وتعظيمه.
جاء في تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: قال الله لهما: "قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ" (الاعراف 24)، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، وإنما سميت الصفا لان صفي الله أنزل عليها، ونزلت حواء على المروة وانما سميت المروة لان المرئة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته؟ قال آدم: إن ابليس حلف لي بالله كاذبا. اقول: وفي كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم. والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، وكقوله: ونزلت حواء على المروة، وكقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الارض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الارض كما يشير إليه قوله تعالى "قال كم لبثتم في الارض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو انكم كنتم تعلمون" (المؤمنون 112-114)، وقوله تعالى "ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون" (الروم 55-56)، على أن عدة من الروايات المنقولة عن اهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، وأنهما نزلا من السماء، على ان المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء والهبوط منها إلى الارض مع كونهما خلقا في الارض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله سبحانه: "اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ" (البقرة 61)، أي إنكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار منهج للاختبار و بناء الذات، و ليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة، اذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، و لكن لا يوجد فيها المنهج المذكور. التنوين في كلمة (مصر) دليل على تنكيرها، و على عدم اختصاصها بالأرض المعروفة. تملكون الإيمان و الحرية و الاستقلال، و إن أبيتم إلّا أن تكون لكم أطعمة متنوعة، فارجعوا إلى مصر حيث الذل و الاستعباد، لتأكلوا من فتات موائد الفراعنة.
عن موقع مؤسسة تراث الشهيد الحكيم عن تفسير القرآن في أدبيات الشهيد السيد محمد باقر الحكيم قدس سره للدكتور فيصل مفتن اللامي: قوله تعالى: "وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ" (المؤمنون 18) فنحن بصدد دراسة اللفظ نشرح معنى النزول لغة ونحدد مفهوم كلمة انزلناه الواردة في الايات الثلاث، ونعرف انها تستبطن معنى (الهبوط من جهة عالية مرتفعة)، وتفسير المعنى هو أن ندرس حقيقة هذا الانزال ونوع تلك الجهة العالية التي هبط منها الكتاب والحديد والماء، وهل هي جهة مادية او معنوية؟ أن أهمية التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى عند السيد الحكيم هو التميز بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم وتفسير المعنى بتجسيده في صورة محددة على صعيد المصاديق، ويعد نقطة جوهرية جداً في تفسير القرآن الكريم، واداة لحل التناقض الظاهري الذي قد يبدو بين حقيقتين قرآنيتين وهما: الحقيقة الاولى: أن القرآن كتاب هداية للبشرية انزله الله سبحانه لإخراجها من الظلمات إلى النور وارشادها إلى الطريق الأفضل في جوانب حياتها، وهذه الحقيقة تفرض أن يجئ القرآن ميسر الفهم وان يتاح للانسان استخراج معانيه منه، اذ لايمكن للقرأن أن يحقق اهدافه ويؤدي رسالته لو لم يكن مفهوماً من قبل الناس. والحقيقة الاخرى: أن كثيراً من المواضيع التي يستعرضها القرآن او يشير إليها، لايمكن فهمها بسهولة، بل قد تستعصي على الذهن البشري ويتيه في مجال التفكير فيها لدقتها وابتعادها عن مجال الحس والحياة الاعتيادية التي يعيشها الانسان، وذلك نظير مايتعلق باللوح، والقلم، والعرش، والموازين، والملك، والشيطان، وانزال الحديد، ورجوع البشرية إلى الله، والخزائن، وملكوت السماء والارض، وما إلى ذلك من مواضيع. أذن فحقيقة اهداف القرآن الكريم ورسالته تفرض أن يكون ميسر الفهم، وواقع بعض مواضيعه يستعصي على الفهم ويتيه فيها الذهن البشري.
https://telegram.me/buratha