الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة للدكتور محمد حسين علي الصغير في مقدمة الكتاب: أخلصت فيه أي في تأليف الكتاب القصد لله عزّ وجلّ، عسى أن ينتفع به الناس وأنتفع: "يَوْمَ لا ينفع مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاّ مَنْ أتى الله بِقَلّبِ سَلِيمِ (89) ) (الشعراء 88-89).
وعن مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل يقول الدكتور الصغير رحمه الله: عكف المسلمون على جمعه وتدوينه وتوحيد قراءاته، وكان أن ضمّت جميع آياته الى سوره، وجمعت كل سوره في المصحف وبدأ تدارسه في نزوله وأسبابه وتشكيله، وحفظه في الصدور وعلى السطور، فكان ما فيه متواترا دون ريب، وسليما دون منازع، تحقيقا لقوله تعالى "إنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون" (الحجر 9). وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا. وعن مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام: فالجاحظ حينما يتحدث عن المجاز القرآني فإنه ينظر له بقوله تعالى "إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" (النساء 10). ويعد هذا من باب المجاز والتشبيه على شاكلة قوله تعالى "أكّالون للسّحت" (المائدة 42). وعنده أن هذا قد يقال لهم، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبدة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل، وتمام الآية "إنّما يأكلون في بطونهم نارا " (النساء 10) مجاز آخر. فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز. ومن هذا يبدوا أن الرماني قد لحظ المجاز بإطاره البلاغي العام، فكل ما كان غير حقيقي سواء أكان إستعارة أم مجازا فهو استعمال مجازي، وينظر لهذا بعشرات الآيات القرآنية، ويعطي المعنى الحقيقي، والمجازي بهذا المنظور الذي أوضحناه ، شأنه بهذا شأن من سبقه الى النظرة نفسها. ففي قوله تعالى "ولمّا سكت عن موسى الغضب" (الاعراف 154). قال علي بن عيسى الرماني ( ت: 386 هـ ) (وحقيقته إنتفاء الغضب، والأستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة، فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره). وفي قوله تعالى "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم" (التوبة 110)، ينظر الرماني إلى المجاز في "ريبة" (التوبة 110) إلى أنه استعارة، مما يعني عدم وضوح التمييز بين المجاز والاستعارة عنده، وكلاهما مجاز بالمعنى العام عنده، إذ عبر الله عن البنيان بأنه ريبة، وإنما هو ذو ريبة كما يرى ذلك الرماني، وإذا صير هذا الاطلاق عليه فهو مجاز، والتعبير عنه بالاستعارة عند الرماني يعني أن النظرة للاستعارة والمجاز على حد سواء. يقول الرماني في تعقيبه على الآية الكريمة (وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها، وحقيقيته إعتقادهم الذي عملوا عليه، والاستعارة أبلغ لما فيهامن البينان بما يحس ويتصور ، وجعل البنيان ريبة وإنما هو ذو ريبة، كما تقول: هو خبث كله، وذلك أبلغ من أن يجعله ممتزجا، لأن قوة الذم للريبة، فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط). كان أبو هلال العسكري (ت: 395 هـ) ذا حدس إستعاري، وحس بياني، وذائقة بلاغية ناضجة فيما أورده من شواهد قرآنية في هذا المقام، ففي قوله تعالى "وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا" (الفرقان 23). يقول أبو هلال: (حقيقته عمدنا، وقدمنا أبلغ، لأنه دلّ فيه على ماكان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائبا عنهم، ثم قدم فأطلع على غير ما ينبغي فجازاهم بحسبه، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير، لأن العمد الى إبطال الفاسد عدل، وأما قوله "هباءً منثورا" (الفرقان 23) فحقيقته أبطلناه، حتى لم يحصل منه شيء، والاستعارة أبلغ، لأنه إخراج ما لا يرى الى ما يرى).
وعن مجاز القرآن في مرحلة التأصيل يقول الدكتور الصغير رحمه الله: عقد إبن قتيبة (ت: 276 هـ ) بابا خاصا للمجاز في كتابه: (تأويل مشكل القرآن). الملاحظ عند أبن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز، فتحار باعتباره المجاز أحيانا ، والحقيقة مجازا، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع. فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة : لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض: "ائتيا طوعاً أو كرها" (فصلت 11) وقولهما "أتينا طائِعين" (فصلت 11). أو قوله لجهنم "هل امتلأت" (ق 30) فتقول "هل من مّزيد" (ق 30). لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح. والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة إجتهادية في استنباط المجاز من القرآن، فهو يجيل فكره، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن. ففي قوله تعالى "إن الذّين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً" (مريم 96) يرى أنه ليس كما يتأولون، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا الى البر والفاجر، مهيبا ، مذكورا بالجميل، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليهالسلام "وألقيت عليك محبّة مّنّي" (طه 39)، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان. ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى "وجعلنا نومكم سباتا" (النبأ 9). فيذهب أن ليس السبات هنا النوم، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما، ولكن السبات الراحة، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم ، ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمي يوم السبت، أي: يوم الراحة. وأصل السبت التمدد، ومن تمدد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، يقال: سبتت المرأة شعرها، إذا نفضته من العقص وأرسلته، ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدد يكون.
وعن أبو الحسن الشريف الرضي (ت: 406 هـ ) يقول الدكتور محمد حسين الصغير: وكتابه القيم (تلخيص البيان في مجازات القرآن) حافل بالمجاز اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة، ولكنه يؤكد فيه (الاستعارة) والاستعارة جزء من المجاز تكون علاقة المشابهة، وهكذا الاستعارة في القرآن. ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله ، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب، وما حفز صاحبه على تأليفه، ومنهجه في التأليف، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة الى قوله تعالى "وطُبع على قلوبهم" (التوبة 87). ويبدو ان الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" (البقرة 7)، وهي الآية السابعة من البقرة، و "وطُبع على قلوبهم" (التوبة 87) كانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع، لأن الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم الى قوله تعالى "وعلى أبصارهم غشاوة" (البقرة 7).
https://telegram.me/buratha