الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقى للمرجع الاعلى السيد ابو القاسم الخوئي قدس سره - الشيخ ميرزا علي الغروي: أنّ ما دلّ عليه المخصص إنّما هو نفي استقلال العبد في التصرف وعدم نفوذه في نفسه من دون ضميمة لا مطلقاً ولو لحقه إجازة السيد ولا أقل من الاجمال فيرجع في مورده وهو لحوق الاجازة إلى عموم دليل "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (المائدة 1). وأورد عليه المحقق النائيني بعدم الاجمال في المخصص، فانّ المأخوذ في الرواية عنوان الاذن ، حيث قال الامام الصادق عليه السلام: (لا يجوز نكاحه ولا طلاقه إلاّ باذن سيّده) والاذن ظاهر في الاذن المقارن.أنّ مقتضى إطلاق قوله تعالى "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (المائدة 1) عبداً لم يصح ما لم يأذن مولاه، فجعل العبد حدّ وسط بين الحرّ وبين الصبي والمجنون فانّ الحرّ مستقل في تصرفاته ، والمجنون ـ وكذا الصبي على قول ساقط انشاؤه مطلقا حتّى مع إذن الولي، وأمّا العبد فهو وسط بينهما، فليس كالحرّ بحيث يستقل في تصرفاته، وليس كالمجنون بحيث لا ينفذ تصرّفه أصلا حتى مع إذن الولي، بل ينفذ تصرّفه مع إذن المالك ولا ينفذ بدون إذنه ، واستدل على ذلك بقوله تعالى "عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْء" (النحل 75) حيث وصف العبد بكونه غير قادر على شيء والمراد بالقدرة المنفيّة إنّما هو استقلاله في التصرف لا أصل التصرف، فانّ من لا يكون مستقلا في تصرفه فهو ليس بقادر عليه. ثمّ إنه ليس المراد بالقدرة القدرة العقلية وبالشيء الأفعال الخارجية، بداهة أنّ الرقية والحرية لا دخل لشيء منهما في القدرة العقلية على الاُمور الخارجية، فمن يقدر على الخياطة فهو قادر عليها تكويناً عبداً كان أو حرا، فيحتمل أن يراد من القدرة القدرة الشرعية، والتعبير عن المنع الشرعي بعدم القدرة متعارف، فيكون المعنى أنّ العبد ممنوع عن كل شيء ، وهذا أيضاً لا يمكن الالتزام به، بداهة عدم حرمة جميع الأفعال على العبد بدون إذن سيده حتى الأفعال الضرورية كالتنفّس وتحريك اليد والرأس والعين والتكلّم ونحو ذلك ، فلابدّ وأن يراد بالقدرة القدرة الوضعية. قوله تعالى: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (المائدة 1) له استمرار من حيث الزمان، وقد خصص ما دام العقد كان مكرهاً عليه، وأمّا إذا رضي به المالك وخرج عن عنوان المكره عليه فيعمّه الآية المباركة، ويؤكّده المقابلة بين التجارة عن تراض وأكل المال بالباطل في الآية الشريفة، فانه إذا غصب أحد من غيره شيئاً فهو مصداق لأكل المال بالباطل ما لم يرض به المالك ، فإذا رضي لم يكن من الأكل بالباطل ، فلا محالة يكون مصداقاً للتجارة عن تراض. لدليل "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (المائدة 1) إطلاق أزماني، فيثبت به الملكية مستمرة من زمان تحقق العقد إلى الأبد، ففي بيع المكره يقيّد إطلاقه بحديث الرفع في الحال الذي يكون فيه الرفع موافقاً للامتنان وهو ما قبل لحوق الرضا وأمّا في غيره فيتمسك باطلاق الآية ويترتّب عليه الأثر لعدم جريان حديث الرفع فيه.
جاء في كتاب الصوم للسيد ابو القاسم الخوئي قدس سره: المكلف مخير بين الاعطاء وبين الاطعام الخارجي ويظهر من اللغويين أيضا صحة اطلاقه على كل منهما فهو اسم للاعم من التسبيب إلى الاكل ببذل الطعام فيكون المسبب الباذل هو المطعم ومن الاعطاء والتمليك والواجب هو الجامع بينهما، ولذلك أطلق الاطعام في موثقة سماعة على اعطاء الطعام لكل مسكين مد فانه أيضا اطعام لا أنه بذل له، فالاطعام مفهوم جامع بين التسليم وبين البذل. وحينئذ فان كان على سبيل الاعطاء فحده مد لكل مسكين من غير فرق بين الصغير والكبير والرجل والمرأة لاطلاق الادلة حسبما مر. وأما إذا كان بنحو البذل فلم يذكر له حد في هذه الاخبار، فهو ينصرف بطبيعة الحال إلى الاطعام المتعارف الذي حده الاشباع وإن اختلفت الكمية الموصلة إلى هذا الحد بحسب اختلاف الناس، فقد يأكل احد مدا وآخر أقل، وثالث اكثر، ولاجل كون الحد الوسط هو المد فقد جعل الاعتبار في الاعطاء بذلك، كما اشير إليه في صحيحة الحلبي. وإن كان الغالب في زماننا ولعله في السابق أيضا كذلك ان الانسان العادي لا يأكل المد بل ولا نصفه. وكيفما كان فلا اشكال في انصراف الاطعام إلى الاشباع كما في قوله تعالى: واطعمهم من جوع، وقد تقدم ان طعم بفتح العين بمعنى شبع. وعليه فالاشباع معتبر في مفهوم الاطعام لو كان مأخوذا من هذه المادة وهو المناسب لقوله تعالى: اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون اهليكم (المائدة 91) إذ من المعلوم ان اطعام الاهل بالاشباع. ويدل عليه ما في صحيحة أبي بصير الواردة في كفارة اليمين من التصريح بالاشباع قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن أوسط ما تطعمون أهليكم قال: ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك قلت: وما أوسط ذلك؟ فقال الخل والزيت والتمر والخبز يشبعهم به مرة واحدة. إذ لا يحتمل اختصاص ذلك بكفارة اليمين لعدم احتمال الفرق بين اطعام عشرة مساكين وبين اطعام الستين من هذه الجهة بالضرورة فانه تفسير للاطعام الذي لا يفرق فيه بين مقام ومقام كما هو ظاهر. وأما الاكتفاء بالاشباع مرة واحدة فهو - مضافا إلى التصريح به في هذه الصحيحة مقتضى الاطلاق في ساير الادلة لصدق المفهوم وانطباق الواجب الملحوظ على نحو صرف الوجود عليها، فلو دعا ستين مسكينا واطعهم مرة واحدة يصح أن يقال انه اطعم ستين مسكينا، فما لم يكن دليل على اعتبار الزيادة على ذلك فمقتضى الاطلاق الاكتفاء بما تصدق عليه الطبيعة. نعم روى العياشي في تفسير الآية المباركة الواردة في كفارة اليمين انه يشبعهم يوما واحدا ولكنه مضافا إلى الارسال محمول على الافضلية لصراحة صحيحة أبي بصير المتقدمة بكفاية المرة الواحدة كما عرفت. وهل يعتبر في البذل أن يكون من يبذل له كبيرا أو يجزي الصغير أيضا كما كان كذلك في الاعطاء؟ لا شك أن مقتضى الاطلاق الاكتفاء بكل ما صدق عليه اطعام المسكين وان كان صغيرا فانه أيضا مسكين اطعمه، إلا أنه ربما لا يتحقق هذا الصدق بالاضافة إلى الصغير الذي لا يأكل إلا قليلا جدا كمن كان عمره ثلاث سنين ونحوه ممن كان في أوان اكله، فان صدق اطعام المسكين بالنسبة إليه مشكل جدا، بل ممنوع عرفا، فلو دعا عشرة رجال وكان معهم ابن ثلاث سنين أو أربع لا يقال انه اطعم أحد عشر شخصا كما لا يخفي. أما إذا كان الصبي اكبر من ذلك بحيث يقارب طعامه طعام الكبار صدق على اطعامه انه اطعام المسكين، بل قد يأكل المراهق المقارب للبلوغ اكثر مما يأكله ابن أربعين سنة، فالبلوغ غير معتبر هنا جزما كما هو معتبر في بعض الموارد مثل الطلاق والبيع والنكاح ونحوها لعدم دلالة أي دليل عليه، بل العبرة بصدق اطعام المسكين فان صدق كمن كان عمره أربعة عشر سنة كفى وشمله الاطلاق من غير حاجة إلى قيام دليل عليه بالخصوص، وإن لم يصدق كالصغير جدا لم يكف مثل مالو جمع ستين مسكينا صغيرا تتراوح أعمارهم بين الثلاث والاربع سنين فان النص من الكتاب والسنة منصرف عن مثل ذلك قطعا، وكذا الحال فيما لو شك في الصدق كما لو كان عمره اكثر من ذلك بقليل، فما نسب إلى المفيد من عدم كفاية اطعام الصغير صحيح لو أراد هذا الفرض دون الاول. وعلى الجملة فالحكم دائر مدار الصدق العرفي فكل ما صدق عليه جزما إطعام المسكين كفى، وما لم يصدق أو شك في الصدق لا يجتزئ به.
جاء في كتاب الصوم للسيد ابو القاسم الخوئي قدس سره: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ" (المائدة 95) فان المماثلة تقتضي ما ذكر كما لا يخفى. والنصوص به متكاثرة متظافرة فلاحظ. كما ان ما ذكره قدس سره من الانتقال لدى العجز عما ذكر إلى الصيام ثمانية عشر يوما في الاول وتسعة أيام في الثاني وثلاثة أيام في الثالث مما لا اشكال فيه أيضا كما أشير إليه في الآية الشريفة ونطقت به النصوص المستفيضة. وانما الكلام في جهتين: الاولى ظاهر اطلاق عبارة المتن عدم الواسطة بين الانعام وبين الصيام فينتقل لدى العجز عن البدنة أو البقرة أو الشاة إلى الصيام على التفصيل المتقدم. وليس كذلك قطعا، بل الواسطة ثابتة نصا وفتوى، فينتقل لدى العجز عن البدنة إلى اطعام ستين مسكينا، ومع العجز عنه إلى صيام ثمانية عشر يوما. كما ان الوظيفة بعد العجز عن البقرة اطعام ثلاثين مسكينا، ومع العجز صيام تسعة أيام، واللازم بعد العجز عن الشاة اطعام عشرة مساكين، فان لم يقدر فصيام ثلاثة أيام على ما صرح بذلك في جملة وافرة من النصوص التي منها صحيحة علي بن جعفر وقد استقرت عليه فتوى الاصحاب كما عرفت. فلابد من تقييد اطلاق العبارة بذلك ولعل غرضه قدس سره مجرد التعرض للانتقال إلى الصيام بعد العجز عن غيره كما هو عنوان هذا القسم من غير تعرض لخصوصيات المطلب.
جاء في كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقى للمرجع الاعلى السيد ابو القاسم الخوئي قدس سره - الشيخ ميرزا علي الغروي: الآيات الناهية عن التقليد: ثمّ إن هناك آيات وردت في النهي عن التقليد وذمه كقوله عزّ من قائل: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ" (المائدة 104) وغير ذلك من الآيات إلاّ أنها أجنبية عمّا نحن بصدده، فإن محل الكلام إنما هو التقليد في الأحكام الفرعية بالإضافة إلى العوام غير المتمكن من تحصيل العلم بالمسألة والآيات المباركة إنما وردت في ذم التقليد في الاُصول، حيث كانوا يتبعون آباءهم في أديانهم، مع أن الفطرة قاضية بعدم جواز التقليد من مثلهم ولو في غير الأصول وذلك لأنه من رجوع الجاهل إلى جاهل مثله ومن قيادة الأعمى لمثله، فالذم فيها راجع إلى ذلك . مضافاً إلى أن الاُمور الاعتقادية يعتبر فيها العلم والمعرفة ولا يسوغ فيها الاكتفاء بالتقليد، وليس في شيء من الآيات المتقدمة ما يدل على النهي عن التقليد في الفروع عن العالمين بها ، لمن لا يتمكن من العلم بالأحكام. وأمّا الآيات الناهية عن الظن، فهي أيضاً كسابقتها في عدم الدلالة على حرمة التقليد لما بيّناه في محلّه من أن النهي في تلك الآيات ليس نهياً مولوياً، وإنما هو إرشاد إلى ما استقل به العقل، إذ الظن يقترن دائماً باحتمال الخلاف فالعمل به مقرون باحتمال العقاب لا محالة ، ودفع العقاب المحتمل مما استقل به من العقل، والنهي في الآيات المباركة إرشاد إليه. ومن ثمة قلنا في محله إن حجية أي حجة لا بدّ من أن تنتهي إلى العلم، إذ لو لم تكن كذلك لاحتمل معها العقاب والعقل مستقل بلزوم دفعه. وعلى الجملة، أن دلالة آية النفر على حجية الفتوى وجواز التقليد مما لا إشكال فيه، ولا يعارضها شيء من الآيات المباركة. ومنها: الروايات الدالة على جواز العمل بالتقليد وحجية الفتوى في الفروع، وهي كثيرة بالغة حدّ التواتر الاجمالي وإن لم تكن متواترة مضموناً. وبها يظهر أن الأدلة اللفظية والسيرة والعقل مطبقة على جواز التقليد وحجية فتوى الفقيه.
https://telegram.me/buratha