الدكتور فاضل حسن شريف
يستمر الدكتور محمد حسين الصغير رحمه الله في طرحه عن مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في القرآن العظيم قائلا: بعد أن خلق الله آدم حكى الله ما حدث بقوله "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة 34). وهنا يظهر إمتناع إبليس من السجود، فزجره الله تعالىٰ "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ" (الاعراف 12). فأجاب إبليس بصيغة واحدة ، وأخرىٰ ، أما الصيغة الواحدة "أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (الاعراف 12)، والصيغة الأخرى في سورة أخرى، فيما حكاه تعالى عنه : ( قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ" (الحجر 33). والتعليل في الإجابة واحد أن الله خلق آدم من عنصر الطين، وهو من عنصر النار، والنار في زعمه أشرف عنصراً من الطين. وهنا يتضح أن الله تعالت قدرته قد خلق آدم من طين، كما نصّ عليه "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ" (ص 71). وفي هذا الضوء نجد خلق عيسى بن مريم عليه في كيفية خرق بها الله النواميس الطبيعية للكون، فكان عيسى عليه السلام كمثل آدم كما قال "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (ال عمران 59). وهذا الخلق الاعجازي العظيم هزّ العالمين في الحديث عن قدرة الله تعالى، وقد تحدث القرآن عن بداية هذا الخلق وإرهاصات تكوينه الإبداعي، ببيان ظروفه كافة، وشرح أبعاده، فقال تعالى "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)" (مريم 16-20).
وعن الخلق الاعجازي في ولادة مريم عليها السلام يقول الدكتور الصغير: وهنا الإرهاص التوقعي أن مريم عليها السلام ستلد غلاماً زكياً، بعد أن إنتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، وأتخذت لها من دونهم ستراً وحجاباً، فأرسل الله الروح الأمين جبرئيل عليه السلام متمثلاً بشراً سوياً متكاملاً، فأستعاذت به من الله تعالىٰ إن كان تقياً، فأخبرها بأنه رسول الله ليهب لها هذا الغلام ، فأنكرت ذلك لأنها لم يمسسها بشر ولم تك بغيّاً ، وهنا يتجلىٰ البعد الاعجازي الجديد، في بيان هوان الأمر على الله، وفي جعله آية للعالمين "قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) ) [١]. فالأمر هين على الله ليجعل عيسى آية للناس ورحمة ، وكان ذلك أمراً إلهياً تكوينياً ، فحملتهُ وإبتعدت به ، فأجاءها المخاض مباشرة إلى جذع النخلة، وتحسست بفداحة ما حملت به، فتمنت الموت فناداها الملك أو عيسى ألا تحزني، وتحدث إليها، وأمرها بهز الجذع فتساقط الرطب ، وأمرت بالأكل والشرب وقرة العين، وأن تقول لمن تراه من الناس أني نذرت لله صوم الصمت، وإنتهىٰ هذا الفصل، وقد ولد عيسى دون أب، وكان حقيقة واقعة لا تجحد ، وتختتم القصة بمثولها أمام قومها، ليتجلى المحور الإعجازي لهم، ويخشعوا صامتين ، وهكذا كان، قال تعالى "فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)" (مريم 27-33). ويستخلص من هذا أن مريم حينما جاءت به قومها، جوبهت مباشرة بالاستنكار الشديد، وهذا ديدن الناس في إستعجال الأمر وقالة السوء، وقلق الوضين، فأشارت إليه بحرارة وعزم وإصرار، فأستغربوا إشارتها وعجبوا لها، وصرخوا بفظاعة تكليم الطفل في مهده، وهنا تبدو الآية الالهية الناطقة، لتحسم الأمر في حركة إرادية غير متوقعة وليست بالحسبان، قال إني عبد الله، أتاني الكتاب ، وجعلني نبياً إلى آخر ما قال، فأسقط بأيديهم، وأخذتهم الدهشة، وانحلّ كل إغلاق وإبهام، فآمن من آمن عن دليل، وأشرك من قال أنه ابن الله.
ويقول الدكتور محمد حسين علي الصغير رحمه الله عن الخلق الفطري: هذا النحو من الايجاد هو الخلق الاعجازي دون مثال أو سبيل طبيعي ، والخلق الاعجازي الآخر هو الخلق الفطري في التناسل البشري الذي أصبح فيما بعد طبيعياً ، وإن كان في أصل الايجاد إعجازياً ، لأنه عاد متعارفاً عن طريق التناسل ، أما حقيقة هذا التناسل وكيفيته ، وجعل الإرادة التكوينية متعلقة بها ، فهو مما لا تصل إليه يد الطبيعة ، وإنما هو من صنع أحسن الخالقين ، وقد أشار الله تعالى إلى الخلقين معاً بقوله تعالىٰ "وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ" (فاطر 11). هذه العوالم الهائلة كلها يسيرة عند الله، فهو الخالق من التراب، وهو الخالق من النطفة، وهو جاعل الزوجية، وهو العالم بما تحمل كل أنثى، وما تضع، يضاف إلى هذا كله إحصاء هذه العوالم في كتاب مبين: المعمر وغير المعمر، وما فوقهما وما دونهما ، ولكن الإنسان يطغىٰ "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)" (يس 78-79). فكيف بدأ هذا الخلق على النحو الطبيعي كما هي الحال اليوم ، وإلى انقضاء أجل الدنيا، وقيام الساعة، هذا ما يجيب عليه القرآن الكريم مستدلاً فيه على البعث والنشور، قال الله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا" (الحج 5). فالتراب هو الأصل التركيبي والانشائي للانسان ، والنطفة هي الأصل الفطري للتناسل، والعلقة: القطعة من الدم الجامد، والمضغة القطعة من اللحم الممضوغة، المخلّقة على ما قبل تامة الخلقة، وغير المخلّقة غير تامة الخلقة، وينطبق ذلك على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق هو التصوير. هذا السرد التدريجي في تركيبة النسل الرحمي مما يرفع التشكيك في البعث والنشور ، فإن من تدرج بالانسان من التراب إلى النطفة، ومن النطفة إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة، إلى التخليق في الصورة، إلى الكائن الحي الناطق، وهي مجموعة من التقلبات المختلفة حتى تصل إلى حين قبول الحياة، لقادرٌ على إمكانية تمتع الانسان بعد الموت بالحياة، نشراً وحشراً، ذاتاً وعيناً، روحاً وبدناً.
https://telegram.me/buratha