الدكتور فاضل حسن شريف
يستمر الدكتور محمد حسين علي الصغير رحمه الله في كتابه نظرات معاصرة في القرآن الكريم عن تحريم الخمر: "وكان آخر ما نزل بتحريم الخمر قوله تعالىٰ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" (المائدة 90-91). هاتان الآيتان بالانضمام للآيات السابقة الناطقة بتحريم الخمر، قد توحي جميعاً بدلالة تدرج الشارع المقدس بتحريم الخمر، ولكن ليس التدرج القائل بالسكوت عن حرمة الخمر، بل ببيان أنها إثم فحسب دون التعقيب على ذلك بالحرمة ، ومن ثم حرّم الاقتراب من الصلاة في حالة السكر، وحينما إستجابت النفوس، وتحسست المدارك بضرورة تنفيذ الأوامر الالهية جاء النهي المطلق العام بجميع الحدود والأبعاد في آيتي سورة المائدة. هذا التدرج التشريعي لما يأتِ بمعنىٰ المرحلية التدرجية من بيان للإثم فحسب، أو كراهة للاستعمال للضرر، إلى تحريم نهائي، إذ لم يكن هناك إيهام فيحتاج إلى بيان، ولا إبهام فيحتاج إلى تصريح بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله "والاثم" ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة "قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" (البقرة 219). وقوله تعالى "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء 43) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ في آيتي المائدة. والآية الأولى من سورة المائدة إعتبرت الخمر رجساً من عمل الشيطان الخاص به، وعمل الشيطان يدعو إلى الضلال ، وأكدت ذلك "بإنما" حصراً، وطلبت الاجتناب أمراً، وعلقت على هذا الاجتناب رجاء الفلاح والسعادة الأبدية، وعقبت ذلك بأن الشيطان في رجسه هذا يريد إيقاع العداوة والبغضاء بين بني البشر، ويصد الناس عن ذكر الله، وختم ذلك بقوله "فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" (المائدة 91) دلالة على أن طائفة من المسلمين لم ينتهوا عن شرب الخمر وسواها حتى قرعوا بهذا الإستفهام الإنكاري تأنيباً وتوبيخاً. وهناك عامل مهم يرتبط بالمناخ الاقتصادي لقريش، فلقريش رحلتان مهمتان للتجارة صيفاً وشتاءً ، وكان الخمر إحدى مفردات هذه التجارة، فهو مرتبط بأرزاق القوم إرتباطاً وثيقاً، وكل أمر يصطدم بالرزق يستدعي الرفض والمجابهة ، قال تعالىٰ "لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)" (قريش 1-4). لذلك كان التدرج في التحريم ضرورةً تقتضيه مرحلية هذا المناخ، فكان التحريم متدرجاً من الشديد إلى الأشد.
ويستطر الدكتور الصغير في تحريم الخمر قائلا: وقد ظهر ممّا تقدم حرمة الخمر حرمة تشريعية قد بدأت في مكة حينما حرم الاثم في آية الأعراف. وفي آية النحل وهي مكية أيضاً إيماء إلى أن السَكَر ليس من الرزق الحسن ، إذ هي لا تتضمن حكماً تكليفياً بل هي في مقام تعداد ما يتخذ من مشتقات النخيل والأعناب طيباً أو غير طيّب ، حسناً أو غير حسن ، سواء أكان ذلك المتخذ من الطيبات أو من الخبائث. وفي آية البقرة وهي أول سورة مدنية ظهر أن في الخمر إثماً، وأن إثمه أكبر من نفعه، وأن التشديد في أداء الصلاة بطهارة نفسية وروحية متكاملة يقتضي الاستمرار في عدم تناول المسكر كما في آية النساء "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء 43). وفيها إشارة إلى أن بعض المسلمين لم يكونوا قد إنتهوا من شرب الخمر، فهم يعاقرونها مع أدائهم الصلاة. وقد إنتهىٰ هذا الأمر بالتشديد في التحريم مع التوبيخ والزجر والتعنيف في آيتي المائدة. بعد هذا يمكننا أن نتحدث عن بعض أضرار الخمر في ضوء قوله تعالى "وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" (البقرة 219)
وعن مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في القرآن العظيم يقول الدكتور محمد حسين الصغير رحمه الله: حياة الكائن الانساني في القرآن تستدعي تأملاً كثيراً في كل منحنياتها ، وتستدعي إنتباه الباحث الموضوعي في تناثر جزئياتها ، فهذا الكائن دون سواه قد حضي بالتكريم الالهي ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الاسراء 70). والعلة في هذا التكريم إعتباره الخلق الأول في حياة الأرض ، كما هو ظاهر القرآن ، وهذا الخلق يمتاز بالدقة في التركيب ، والحسن بالتقويم ، والابداع في التصوير. هذا الخلق الجديد ذو طابعين: طابع إعجازي لا عن مثيل، وطابع فطري في سنة الحياة يقترن بالتزاوج والتناسل بين الذكر والأنثىٰ بتلاقح الحويمن المنوي المذكّر بالبيضة المخصبة الأنثوية، لينتج ذلك كائناً ناطقاً عاقلاً مفكراً من جماد، لا أهلية له من نطق أو عقل أو إرادة أو تفكير، وهذا ما جلب إنتباه فيلسوف المعرّة أبي العلاء المعري فقال: والذي حارث البريةُ فيهِ * حَيَوانٌ مستحدثٌ من جماد. ولكل من هذين الملحظين المهمين في تكوين الإنسان حديث يتناول أبعاده الأولىٰ والمتطورة على حد سواء، حتى لحظات الموت وحياة البرزخ وقيام الساعة. وقد بدأ هذا الإبداع الالهي بما حكاه الله تعالى في كتابه "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" (البقرة 30). هذه هي البداية بهذا الجعل التكويني المستفيض الذي لا يقبل الردّ ، وهنا تنطلق قضيّتان : الأولى هذا الأستفهام من الملائكة "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة 30) ولا يمكن أن يصوّر هذا الاستفهام في طلب المعرفة وإستيضاح الحال بأنّه إعتراض على الله، لأن الإفاضات التي حصل عليها الملائكة ، وهم عباد مقربّون مكرمون، لا تبيح لهم الإعتراض والانكار، فهم أعرف بجلالة المقام الالهي، وسمو الحضرة القدسية، وقد يقال بأنهم قد أشكلوا على الله تعالى لمزيد الإفاضة عليهم ، فيكون الحال مزيجاً بين الاستفسار والاسترحام والتلطف في المسألة لا على جهة الاعتراض والانكار ، وهذا الإشكال على هذا النحو لا يشكّل ما لا يجوز لهم ولا يباح، لأنهم طلاب معرفة، وهم يستشكلون الأمر لأنهم يقدّسون الله ويسبحونه، فعلىٰ هذا يكون الباعث على ذلك مجرد التعجب من وجود حالتين متقابلتين: حالة الملائكة وهم بين التسبيح والتقديس لله في السماء، وحالة البشرية في الإفساد وسفك الدماء في الأرض، فكان الجواب: إنه يعلم ما لا يعلمون، فسلّموا للأمر تسليماً.
https://telegram.me/buratha