الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن كلمة الروح ومشتقاتها "عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" ﴿البقرة 253﴾ بِروحِ القُدُسِ: بجبريل عليه السلام، بروح القدس: جبريل يسير معه حيث سار، وآتى الله تعالى عيسى ابن مريم عليه السلام البينات المعجزات الباهرات، كإبراء مَن ولد أعمى بإذن الله تعالى، ومَن به برص بإذن الله، وكإحيائه الموتى بإذن الله، وأيده بجبريل عليه السلام، و "وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" ﴿النساء 171﴾ وَرُوحٌ: وَ حرف عطف، رُوحٌ اسم، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله أرسله الله بالحق، وخَلَقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم، وهي قوله: "كن"، فكان، وهي نفخة من الله تعالى نفخها جبريل بأمر ربه، فَصدِّقوا بأن الله واحد وأسلموا له، وصدِّقوا رسله فيما جاؤوكم به من عند الله واعملوا به، ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين، و "عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ" ﴿المائدة 110﴾ بِروحِ القُدُسِ: جبريل عليه السلام، إذ قال الله يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب، وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين، وبرأتها مما نُسِب إليها، ومن هذه النعم على عيسى أنه قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السلام، و "ا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" ﴿يوسف 87﴾ روح الله: رحمة الله، رَوح الله: رجاء الله و رحمته و إحسانه، روح الله: رحمته و فرجه و تنفيسه، وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ: لا تقطعوا رجاءكم من رحمة الله، قال يعقوب: يا أبنائي عودوا إلى مصر فاستقصوا أخبار يوسف وأخيه، ولا تقطعوا رجاءكم من رحمة الله، إنه لا يقطع الرجاء من رحمة الله إلا الجاحدون لقدرته، الكافرون به، و "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" ﴿الحجر 29﴾ رُوحِي: رُّوحِ اسم، ى ضمير، مِنْ روحيِ: من الروح التي خلقتها و الإضافة هنا إضافة تشريف، فيه من روحي: فصار حيا وإضافة الروح إليه تشريف لآدم، فإذا سوَّيته وأكملت صورته ونفخت فيه الروح، فخُرُّوا له ساجدين سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، و "يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ" ﴿النحل 2﴾ بِالرُّوحِ: بِ حرف جر، ال اداة تعريف، رُّوحِ اسم، بالروح: بالوحي أو بالرحمة، بِالْرُّوحِ: بالوحي، ينزِّل الله الملائكة بالوحي مِن أمره على مَن يشاء من عباده المرسلين: بأن خوِّفوا الناس من الشرك، وأنه لا معبود بحق إلا أنا، فاتقون بأداء فرائضي وإفرادي بالعبادة والإخلاص.
قوله تعالى "قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" (الاسراء 85) عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن ماهية الروح، فأجاب الروح من سنخ الأمر. قال الله تعالى "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (يس 82) "وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر" (القمر 50). قوله تعالى في خلق آدم عليه السلام "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي" (الحجر 29)، وقوله تعالى في خلق عيسى عليه السلام "فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الانبياء 91)، و "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ" (النساء 171).
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ" (النساء171) ان عيسى هو روح مخلوقة من قبل الله على الرغم من ان البعض اساء الاستفادة من هذه العبارة "وَرُوحٌ مِنهُ" (النساء171) وفسرها بان المسيح عليه السلام هو جزء من الله سبحانه وتعالى مستنداً إلى عبارة منه ولكن الواضح في مثل هذه الحالات ان كلمة (من) ليست للتبعيض بل تدل على مصدر ومنشأ واصل وجود الشيء. أنّ اللّه عليم بقيمة كل إنسان، و هو سبحانه و تعالى ينتخب أنبياءه من بين عامّة الناس، و يفضل بعضهم على بعض، إذ جعل أحدهم (خليل اللّه) و الآخر (كليم اللّه) و الثّالث (روح اللّه)، أمّا نبيّنا فقد انتخبه بعنوان (حبيب اللّه). و باختصار: لقد فضل اللّه بعض النّبيين على بعض لموازين يعلمها هو و تختص بها حكمته جلّ و علا.
يقول الشيخ عبد الحافظ البغدادي: نفسُ الإنسان هي الجزء الّذي خاطبه القرآن الكريم في كل اياته، والنفس هو الجزء المكلّف دائماً في الأمور، لان النفس تختلف عن الروح. قال الله تعالى "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *ق َدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس 7-8). وهناك صور متعددة عن الذات الانسانية (النفس البشرية) مثل تفكير الشخص عن نفسه بأنّه انطوائي، أو منفتح، أو غير مسؤول، وجوانب أخرى عديدة تتعلق بالشخصية، ويشمل أيضاً مفهوم الذات أبعاداً أخرى، مثل: الميل للجنس بشكل قوي او الميل لجمع المال وكنزها. هذه كلها تشكل ذات الانسان ونفسه التي تصدر منه وهي باختياره تماما. قال الله تعالى "الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ" (غافر 17). تنقسم النفس إلى ثلاثة أقسام، وهي: اولا :النفس المطمئنّة وهي أرقى درجات الخير والجمال الّتي تصل إليها النّفس البشريّة "يا أيّتُها النّفسُ المُطمئِنّةُ * ارجعي إِلى ربِّكِ راضيةً مرضيّةً * فادخُلي فِي عِبادِي * وادخُلِي جنّتِي" (الفجر 27-30). الثانية: النّفس الأمّارة بالسوء "وَمَا أُبَرِّىءُنَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (يوسف 53)، هي النّفس الّتي تكون جاهزةً للشرّ والفتنة، تعمل بأوامر الباطل وتقترن بالشّيطان والهوى، فتفعل السّوء، اي النفس المؤذية "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مّ هينا" (الاحزاب 57). ثالثا: النّفس اللوّامة، وهي درجة وسطى بين كلٍّ من النّفس الأمّارة بالسّوء وتلك المطمئنّة؛ الانسان يقع بالذّنب، ولكنّه يعترف بذنبه ويحاسب نفسه "لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" (القيامة 1-2). فالنفس هي ذات الإنسان التي يتصرف من خلال الروح والجسد طيلة حياته فتكون الإفرازات البشرية منه هي النفس. فما إن نزعت روح الإنسان منه بطل كلّ ذلك وفسد، فالإنسان لم ينتفع بخلق الله من بصر وسمع وغيرها إلّا بعد أن نُفخت فيه روحه، قال تعالى: "فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (الحجر 29) إذاً الرّوح هي الأساس ففي يوم القيامة تعود الأرواح إلى الأجساد بعد النّفخ في الصور فيقوم الناس أحياء " وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" (يس 51-52).
جاء في تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: وكذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، وإنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالإنسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى "فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا" (مريم 17)، وقوله "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ" (النحل 102)، وقوله "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ" (الشعراء 193) لأن الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربهم ، وما يتراءى من الأجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى "فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا" (مريم 17) وقد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت وروح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله "فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي " (الحجر 29). وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والإنسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفا وخسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة. فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي" (الحجر 29). ومن الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال "أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" (المجادلة 22) وهي أشرف وجودا وأعلى مرتبة وأقوى أثرا من الروح الإنسانية العامة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية "أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها" (الانعام 122) فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتا وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه. ومن ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لإحياء الأرض بعد موتها. ومن الروح الروح المؤيد بها الأنبياء قال "وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" (البقرة 87) وسياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان. وأما قوله "يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ" (المؤمنون 15)، وقوله "وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا" (الشورى 52) فيقبل الانطباق على روح الإيمان وعلى روح القدس والله أعلم.
https://telegram.me/buratha