الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب نظرات معاصرة في القرآن الكريم للدكتور محمد حسين علي الصغير عن المدرك الطبيعي والاعجازي في خلق الانسان: مشيراً بادئ ذي بدء إلى الأصلين معاً كما في قوله تعالى حاكياً "أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" (الكهف 37). ومفرعاً على ذلك في تأكيد مراحل الحقيقتين معاً بقوله تعالىٰ "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (المؤمنون 67). ويتبلور هذا الملحظ شيوعاً بالاستدلال على البعث يوم القيامة من جهة، والاعتبار بتقلبات الخلقة وتطويرها من حقيقة إلى حقيقة أخرى، حتى تنتهي مراحل العمر بالعودة إلى أرذله أو بالوفاة، يتمثل ذلك في قوله تعالىٰ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" (الحج 5). أرأيت هذه الحيثيات المنوعة في مراحل الانشاء المتعددة، ثم قف عندها قليلاً لتجدها عالمية الايجاد لأبناء البشر كافة، فهي حقيقة فوق الحقائق ، ومنظور إنساني لم يتأقلم ، وقاعدة عامة في الاسترسال التكويني بكل مقوماته لهذا الانسان المخلوق كما هو عليه في قوله تعالىٰ "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (14)" (المؤمنون 12-14).
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله قائلا: ويتابع القرآن مطلق الانسان في الحياة فيذكره بضعفه الواهن فيقول "وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء 28). ويقيمه وهو يتعرض للبلاء فيلتجئ إلى الله مخلصاً له الدين كما في قوله تعالىٰ "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا" (يونس 12). ويمثل غطرسته في ضد هذا فيصوره وقد أنعم الله عليه معرضاً، قال تعالى "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ" (الاسراء 83). ثم بعد هذا يجعله ميزاناً فيما بينه وبين نفسه كما فيقوله تعالىٰ "بَلِ الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" (القيامة 14). ثم يشير إلى طبيعته في التمرد وتجاوز الحدود ظلماً وكفراناً كما في قوله "إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 34). ويعبر عنه مستفضعاً ما جبلت عليه نفسه عناداً وإصراراً وطغياناً بما قال تعالى "قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ" (عبس 17). وحقق القرآن مع الانسان فيما يبقى له ، وما يتواجد معه ، بعد مفارقته الدنيا ووفوده على الله تعالى متحدثاً عما ينفعه فيما عمل فقال :"وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ" (النجم 39). أشار أنه سوف يتذكر ذلك "يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىٰ" (النازعات 35). ومع كل هذا التقويم لا يترك القرآن الإنسان دون عظة وعبرة ونصح كريم "أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة 36). فيهزه من الأعماق ليقف به على تجاوزه وتعديه بما يكشف عنه قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" (الانفطار 6). وقد يقال في جواب هذا أنه ألهمه الجواب الناجع: غرني يا رب كرمك. وهذا فضلٌ جديد يضاف للأفضال السابقة، وهنا يتطامن هذا الطاغوت لينظر إلى أولياته في التكوين، ليكبح من جماح نفسه ، ويخفف من غلواء جبروته فيصكه الله تعالى بقوله "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)" (الطارق 5-8). فإذا رجع إلى الله، ووقف للحساب الجديد، هنالك "يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) )" (القيامة 10-13). هنا يصطدم هذا الانسان الغر الجاهل المتعنت الضعيف بالحقيقة الهائلة الكبرى إذ يقف بين يدي أعماله وذنوبه وجهاً لوجه ، لا ستار ولا حجاب، ولا إستقالة "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا" (الاسراء 13).
وعن المتقين وعلاقتهم بخلق الانسان يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير رحمه الله: هذه المفاجأة لجنس الانسان إلا المتقين يجب أن يقف بإزائها وقفة الصامد الخبير، فأعماله متمثلة أمامه ، وأفعاله وأقواله متجسدة في قوالبها لديه، والشاهد هو الحاكم، والحاكم هو الله، وكفىٰ في ذلك شدة وروعة وترويعاً وذهولاً، لهذا فقد حذر هذا الانسان من أهوال ذلك اليوم ومشاهده، قال تعالىٰ :"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (2)" (الحج 1-2). إنها الواقعة والراجفة والطامة والنازلة الكبرى، تصدق في كل جزئياتها، وتجد في كل ساعاتها، فلا كذب ولا لعب "إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)" (الواقعة 1-2). هنالك يمتاز الناس إلى أزواج ثلاثة كما ينص القرآن العظيم "وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ المُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ (14)" (الواقعة 7-14). وذلك أن الناس يوم الحشر بهذا الاعتبار يصنفون إلى : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين. فأهل الجنة هم أصحاب اليمين، وأهل النار هم أصحاب الشمال، والسابقون هم تلك الطبقة العليا التي اهتبلت فرصة الحياة الدنيا فقفزت باتجاه واحد نحو الله وحده، سبقوا إلى الايمان، وسبقوا إلى الخيرات، وسبقوا إلى العبادة بأنصع مظاهرها فتسنموا الدرجة الراقية في الزلفىٰ. وفي هذا الضوء تنقسم ساحة المحشر للعباد إلى منحنيات متميزة حينئذ: أصحاب الجنة / أصحاب النار / رجال الأعراف، وحينئذ تصدر النداءات المتداولة بين هذه الأصناف النازلة في الساحة، بعد عرفان كل شيء، ورفع الحجب والأستار، والوقوف عند الحقيقة الهائلة. قال تعالى "وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (الاعراف 44). وفي قبال هذا النداء الضخم المشتمل على كثير من الاستظهار والتحدي والتشفي والاطمئنان المتكامل يصدر النداء الآخر "وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ" (الاعراف 50). فكل أماني هؤلاء الطغاة شيء من الماء أو قليل من الرزق، ويجبهون يأساً وحرماناً وبعداً بأن الله حرمهما على الكافرين.
https://telegram.me/buratha