الدكتور فاضل حسن شريف
وعن عالمية القرآن واهتماماته بالانسان يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه نظرات معاصرة في القرآن الكريم: ثـالثاً: وتتأكد عالمية القرآن في اطار إهتماماته القصوى بالانسان ، فهو يتابعه ويلاحقه منذ خلقته وتكوينه وولادته حتى حياته ومعاشه إلى حين وفاته ومدفنه ونشره وحشره وعاقبته، ومعنى هذا أن القرآن ذو عناية خاصة بمسيرة الكائن الانساني منذ البداية وهو معنيٌّ أيضاً بمصير الانسان الجماعي حتى النهاية. ففي خلق الانسان وإيجاده خليفة في الأرض ، هناك مدركان بارزان: المدرك الابداعي في التكوين الخلقي من الأرض، كخلق آدم عليه السلام، والمدرك الرتيب في الخلق عن طريق التزاوج فالتناسل، وفي هذه المسافة المتباعدة بين الخلقين قد اختصرت الحقيقة التكوينية كلها. وقال تعالى "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ" (ص 71). وقال تعالى متحدثاً عما تحقق"وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ" (المؤمنون 12). فبين تعالى الأصل في الخلق من الطين ، وهو عنصر أرضي يحمل بين طياته عناصر أرضية أخرى، فهو مجموعة عناصر تتمثل فيها الأرض بمركباتها، وهو البداية الابتداعية لهذا الايجاد المتباعد الأطراف في التركيب والتكوين والتأسيس بما يستوعبه هذا الكلي العام من ملايين الجزيئات المعقدة في العدد والكمية والوزن والمدارك جسمياً وعقلياً ونفسياً وتصويراً وتخييلاً وقابليات ومعدات وأجهرةٌ وتجاويف وعصيات وحفيات وأقواس وجينات وخلايا وأعصاب وعضلات ما ظهر من ذلك وما خفي مما لا يحيط به الادراك الحسّيّ كثيراً. والذي أجمله تعالى بقوله "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9)" (السجدة 7-9). ولنقف قليلاً عند الآية الأولى التي تتحدث عن الملحظ الإيجادي في الخلق لا على نحو المثال، ولا على صيغة من وجود سابق ، إذ لا وجود هناك لهذا المخلوق الجديد لأنه بعد لم يوجد، فلما وجد قيل له بأنه الانسان.
وعن قوله تعالى "هَلْ أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا" (الانسان 1) يقول الدكتور الصغير رحمه الله التفسير الأولي أن الانسان جسد وروح، أي أنه مركب من حقيقتين متغايرتين، وحينما إتحدا كان الانسان كائناً حياً، فإذا افترقا كان هذا الانسان نفسه ميتاً وعاد جثماناً، وهذا وإن كان صحيحاً في حد ذاته، ومقدماته تبني عن نتائجه، إلا أن القرآن العظيم يومي إلى أبعد من هذا تحديداً حينما جعل الانسان حقيقة واحدة، فهو إنسان بروحه وبدنه، وهو أنسان حين مفارقة روحه لبدنه ، فمثله كمثل الماء والتراب حينما يكوّنان حقيقة واحدة عند التماسك أو عند الانحلال. وقوله تعالى "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ" (السجدة 11). فيه دلالة على أن الانسان هو نفس الانسان، فإذا اتصلت الروح بجسده فهو حيٌّ، وإذا انفصلت عنه فهو ميت، إذن هو إنسان في الحالين، والنص القرآني في مجموعة دلالاته (يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة (كم) وهو الانسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع). ويصور هذا الملحظ (لم يكن شيئاً مذكوراً). فهذا الانسان بالطريق الاعجازي في الخلق إنما كان طيناً لازباً يندك في طول هذه الأرض وعرضها، فلم يكن ذا ذكر فهو غير متعين ولا محدد، وهو حينما صور هذا التصوير البديع، في خلقه الأول، وولجته الروح بأمره تعالى، عاد إنساناً معلوماً وموجوداً فكان مذكوراً، فهو باللحاظ الأول شيء غير مذكور، وهو باللحاظ الثاني كيان مذكور، وهذا ما تفسره رواية الإمام الباقر عليه السلام: قال: (كان مذكوراً في العلم، ولم يكن مذكوراً في الخلق). وفي رواية أخرى عنه عليهالسلام رواها زرارة بن أعين في تفسير جزء الآية، يقول الباقر عليهالسلام: (كان شيئاً ولم يكن مذكوراً). فالانسان كان شيئاً في علم الله وتقديره، وإن كان معدوماً بعد لم يوجد، ثم صار شيئاً مذكوراً بعد خلقه وتكوينه، سواءً أنظرنا في ذلك إلى الطريق الاعجازي في الخلق، أو الطريق الفطري في التكوين المتسلسل المنظور إليه في قوله تعالىٰ "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)" (التين 4-5). وهذا أيضاً طريق إعجازي محض أن يخلق من هذه المادة الميتة إنساناً متكاملاً في أحسن تقويم فكان ذا هيئة حسنة، وصورة مترفة، وروعة نادرة، حتى عاد مستوياً أيام شبابه ونضارته مثلاً، ثم ردّ إلى الهرم والشيخوخة، وورد مورد العجز والكبر، فتسافل في خلقه من قوة إلى ضعف، ومن نضارة إلى إنهدام، ومن جمال الفتوة إلى تلاشي القوة، فبعد أن كان ذا هيئة مشرقة وضاءة إستبدلها بالكبر والانحناء والخور. هذا الطرح الموضوعي لمعنى الآية هو الذي يلائم الاستثناء المنقطع بعد الآيتين في قوله تعالى "إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" (التين 6). بدليل أن حكم الخلق التركيبي للانسان يستوي فيه المؤمن والكافر، الموحد والملحد، الصادق والمنافق، بدليل قوله تعالى "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ" (يس 68). و "من" من أدوات العموم، فكل معمّر من الناس ينتكس في الخلق.
وعن الخلق الاعجازي ليس من الطين، وليس من طريق التزاوج التلقيحي، يقول الاستاذ محمد حسين الصغير: والحقيقة الثانية أن لله خلقاً آخر من الناس ليس من الطين، وليس من طريق التزاوج التلقيحي، ولكنه خلق إعجازي آخر بإرادته التكوينية المطلقة، ونموذج هذا الخلق هو عيسى بن مريم عليه السلام، قال تعالى "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (ال عمران 59). قال ابن عباس والحسن وقتادة: هذه الآية نزلت في وفد نجران: السيد والعاقب، قالا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فبدأ بيان ذلك بالرد على هؤلاء بالأصل التركيبي للأنسان وهو التراب، وبالأب الأكبر للبشر وهو آدم، فخاطب القرآن الذائقة الفطرية بالمنطق الفطري ، واستنزل الحجة الصغرى بالحجة الكبرى، وأبان أن منطق الأعجاز في الخلق يختلف عن المنطق الطبيعي في التكوين لدى التزاوج والتلاقح والتناسل، فالأصل التركيبي للبشر هو التراب، وهذا ما يقاس عليه عيسى عليه السلام في التكوين، فآدم: نشأته وتكوينه مباشران لم يسبقا بقانون طبيعي وكذلك عيسى، وكلاهما خاضعان للارادة التكوينية من قبل الله تعالى "كن فيكون" وهذا سر الحياة الذي لا يعلمه إلا الله، دون التقاء ذكر بأنثى، أو تلاقح خلية ببيضة، وذلك طريق الأخصاب، وسنن الانجاب.
https://telegram.me/buratha