الدكتور فاضل حسن شريف
عن البعد العالمي للقرآن يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير رحمه الله: البعد العالمي في القرآن محور مستفيض من محاور البحث العلمي المتجدد، والخوض في مشتقاته الفعلية يستدعي التفرغ إلى عمل أكاديمي متطور ينهض بمؤلف ضخم يلم شتاته ، ويجمع متفرقاته، ويستقرئ جزئياته. والخطوط الأولية للموضوع قد تعطي ثمارها التوفيقية ضمن إطار أولي محدد يعنى بالتركيز على ظواهر عالمية القرآن ضمن الاشارة الموحية، والادراك الفاحص في جملة من المحاور الآتية: أولاً: إن عالمية الاسلام تعني بالضرورة عالمية القرآن، وذلك أن القرآن هو رسالة الاسلام، وهذه العالمية المبرمجة قد خطط لها القرآن نفسه بما لا يقبل الشك في كل آياته التي تشير إلى عالمية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته للبشرية جمعاء. قال تعالىٰ: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" (الاعراف 158)، والآية في مقام الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في إشعار الناس كافة بالقول لهم أنه رسول الله إليهم، ومعنى هذا عالمية رسالته، وإستقطابها شعوب الأرض ومختلف الأمم، فمحمد بهذا رسول الله إلى الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، وهؤلاء هم الناس ورسالته شاملة لأفرادهم، مستغرقة لأجناسهم دون اختصاص بقوم عن قوم، ولا أمة دون أمة، يعضده قوله تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (سبأ 28). فإذا جمعنا له قوله تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107)، خلص لنا أنه رسول البشرية، وما إرساله إلا رحمة للعالمين، وهذا الارسال يحمل في طياته ملامح البشارة الرضية المرضية، وصرخة النذارة الهادرة المدوية، ذلك ما يعلنه قوله تعالىٰ "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (البقرة 119). ويؤكده قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الاحزاب 45). وهنا تضاف الشهادة إلى البشارة والنذارة لتتم حلقة الوصل العالمية في التدرج البياني ليصل إلى ذروته في التبليغ بقوله تعالى "وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا" (النساء 79). وقد وضع الله تعالى على الناس ذاته القدسية شهيداً على هذا الارسال العالمي.
ويستمر الدكتور الصغير متحدثا عن البعد العالمي للقرآن: ثـانياً: والمنطلق البارز في تشخيص عالمية القرآن نصاً ومضموناً تأكيد القرآن على خطاب الناس كل الناس في تعليماته الالهية، وهذا المنطلق يتحدث فيه القرآن إلى الناس في مختلف شؤونهم ، ويدعوهم بعامة إلى الأخذ بالأصلح من الأنظمة ازاء تدوير الواقع البشري المتقلب ليقف به على مرفأ الأمان، ويستقر مستوياً بشاطيء الخلاص، وأول ما يدعوهم إليه سنن التوحيد المطلق في ظلال ملكوته قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ" (البقرة 21)، يدعم ذلك الملحظ بالكتاب الذي أخرج كل الناس إلى النور "الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (ابراهيم 1). ويوجه هؤلاء الناس نحو الله بإعتبارهم مضطرين له، فقراء إليه، وهو في غنى وعز ومنعة عنهم، يُحمد بغناه، ويعبد لآياته "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ" (فاطر 15). وإذا كان الناس بهذه الفاقة، محتاجين ولا يحتاج إليهم، فحريُ بهم أن يتجهوا نحو الله في الشؤون والشجون والآمال، ولا يتكلوا على الأحلام والأماني، فوعد الله حق، ووعد غيره الغرور. قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا" (فاطر 5)، ولا يقف القرآن عند هذا الحد في تذكير الناس وتحذيرهم، وتقويمهم ومتابعتهم، بل يتسع في الحديث إليهم ، بما خولهم به الحياة الدنيا ، وما أسبغه عليهم من نعم ظاهرة وباطنة ، وما سخره لهم من أكوان وأديان وظواهر تصب في محيط واحد هو سعادة الناس في دنياهم، وسلامتهم من الأهوال في آخراهم ، كل أولئك يتمثل في مراصد قرآنية أبرزها: 1 ـ الايحاء بإدراك نعم الله التي لا تحصى، والتذكير بآلائه التي لا تستقصى، بما في ذلك النعم المادية والمعنوية. قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ" (فاطر 3). وقال تعالى "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ" (البقرة 231). وقال تعالىٰ "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ" (ال عمران 103). وقال تعالى "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ" (المائدة 7). وقال تعالى "وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" (النحل 114). وقال تعالى "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النحل 18). وقال تعالى "وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" (لقمان 20)، حتى قوله تعالى "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسلام دِينًا" (المائدة 3). هذا الحشد الهائل من التأكيد على النعمة يوحي بعظمة قدرها، وسبوغ رحمتها، وشيوع مفرداتها، وشمول ظلالها للناس كافة.
ويستطرد الدكتور محمد حسين الصغير قائلا: 2 ـ الأمر على نحو الاباحة بالتمتع بما خلق الله من الأرزاق الكائنة فيما تنبت الأرض، وما يخرج منها ، وما يربو فيها، وما باركه من ثمرها وشجرها ومرافقها وأنهارها ومناخها مما جعله مسخراً للانسان لتيسير مرافق الحياة، وهو الذي يسره وسخره وفجره وجعله سائغاً هنيئاً مريئاً. قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا" (البقرة 168). وقال تعالى "كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (البقرة 60). وقال تعالى "أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ" (البقرة 267). وقال تعالى "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ" (الاعراف 10). وقال تعالى "وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" (الجاثية 5). وقال تعالى "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا" (هود 6). وقال تعالى "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ" (هود 61). وقال تعالى "وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ" (الرعد 4). وقال تعالى "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ" (النحل 13). إن هذا التأكيد على الأرض وما أخرج منها إنما يكون للبشر كافة فهو الذي أنشأهم منها، وهو الذي رزقهم فيها، وهو الذي سخرها لهم.
https://telegram.me/buratha