الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الشيخ جلال الدين الصغير في في كتابه الموسوم الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس: فعندئذ لا نجد أي عائق في الرضوخ لشأن امتداد الإمامة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى من تطابقت مواصفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع مواصفاته، بل تلجؤنا الضرورة العقلية والموضوعية إلى القول بأن غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزمني والمكاني، لا يلغي الحاجة إلى وجوده الشريف في إمامة هذا الكون وحفظ وجوده، فهذا الوجود يتوقف عليه عدم وقوعهم في العذاب كما دلت عليه الآية الكريمة: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ" (الانفال 33) وعدم زوال الرحمة الإلهية للعالمين التي أشير إليها في قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) الأمر الذي يجعل امتداد إمامته إلى من بعده ضرورة لا مندوحة عنها. وهذا ما هو عليه اتجاه أهل البيت عليهم السلام المتمثل بمذهب الإمامية أعلى الله شأنهم، ولا يمكن لأي اتجاه آخر أن يحقق التوافق الموضوعي بين ما أشرنا إليه من استلزام امتداد إمامة التشريع وإمامة الولاية والحكم وإمامة الشهادة وإمامة الوجدان وإمامة الوجود التي أوليت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره الإمام الأكبر وضمن مواصفات النص والعلم، لما بعده، وذلك بسبب عدم تمكن العمر الزماني والمكاني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن يحقق الأغراض المرتبطة بها، إلا من طريق القبول بإمامة الأئمة الاثنى عشر صلوات الله عليهم وبقبول التفاصيل الإمامية في خصوص حياة الإمام المهدي عجل ا لله تعالى فرجه الشريف، ومن غير ذلك فخرط القتاد أهون من نيل المستحيل أو التعسف في تفسير الآيات القرآنية الشريفة وتحمليها ما لا يحتمل وفي ذلك من الخيانة لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وليس أمامي بعد ذلك كله غير النصيحة الصادقة عبر قوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الانفال 27-29).
وعن امامة الآخرة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: وجدنا فيما مرّ من مقامات الإمامة إنها تستوعب كل الشؤون الدنيوية التي لها ارتباط تام بكافة شؤون الآخرة. فإن كانت الآخرة تعني نهاية وجود عالم الدنيا بكل تفاصيله، فلقد وجدنا الارتباط العضوي بين ذلك وبين مهام إمامة الوجود. وإن كانت الآخرة تعني حلول ساعات الحساب والجزاء، فليس ثمة مجال للتوهم بعدم شمولية إمامة التشريع والسياسة والحكم والوجدان وإمامة الشهادة لكل متعلقات الحساب والجزاء وتفاصيلهما, مما ينحو بنا إلى القول بأن حضور نفس إمام عالم الوجود الدنيوي كإمام لعالم الآخرة يعدّ بمثابة الأمر الذي لا مندوحة عنه. فلقد وجدنا الإمام هو الذي حدّد لعالم الدنيا مفاهيم الحلال والحرام، أو مفاهيم السعي باتجاه مراتب الكمال، ووفق معاييره تمت صياغة مفاهيم العدالة وتجسداتها الفردية أو الاجتماعية، وعلى محوريته في عالم الوجدان تم تحديد وظائف المحتوى الداخلي للإنسان وتحديد أطر المراقبة الموضوعية في الذات، هذا ناهيك عن مهام إمام الشهادة في الشهادة للأعمال وعليها. وهذا بمجموعه يرينا الصورة الكاملة التي تقوم عليها أطر عالم الحساب في يوم القيامة، وهو بمجموعه ينضوي تحت معايير الصراط المستقيم التي جعلت حكماً مفهومياً في صور الحساب. ووفقاً لعدالة الله عظمت آلاؤه فإن من كان سبباً في الحساب، لابد وأن يجعله سبباً في جزاء العمل الذي حوسب بموجبه، فهذا الجزاء متقوّم على مقدمة هي كالشرط بالنسبة لذلك الجزاء، الأمر الذي يجعل تحكيم الإمام في مسارات يوم الحساب والجزاء أمراً لا مناص منه. ولربما يرينا مفهوم المؤذن المطروح في قوله تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (الاعراف 44) صورة أولى لإمامة الآخرة في بعد الفرز المقوّم على الحساب على المستوى المصداقي وليس المفهومي فقط. فمن الواضح أن هذا المؤذن لم يك من أي الطرفين، بل كان حكماً عليهم، بدليل وجود كلمة "بَيْنَهُمْ" مما يجعله في جهة القضاء بين الفريقين، وهو الأمر الذي يظهر علو شأنه عليهم. وهذه الجهة التي لها مثل هذا الشأن في يوم كهذا يجرّنا المنطق لضرورة التعرف عليها.. فمن هو يا ترى هذا المؤذن؟.
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: في البدء لا بد من ملاحظة أن التحدّث عن الظلم في الآية بهذه الطريقة وفقاً لمفاد مفهوم الحجة البالغة يقتضي أن يكون المتحدّث مبتعداً عن الظلم بجدارة، لأن من شؤون القيامة أن المتكلمين لا يمكن أن يتكلّموا إلاّ بما هو واقع، ولا يعقل أن هذا المؤذن يلعن أهل الظلم ويتبرأ منهم ويطردهم من الرحمة الإلهية إلا من خلال كونه بريئاً براءة كاملة من الظلم، وهذا ما يجعله بداهة من أصحاب الاختيار في البعد عن كافة صروف الظلم، بحيث يكون له مثل هذا الأذان القاطع في الحكم على الظالمين، مما يخرج ما حاول بعض المفسرين تصوير هذا المؤذن بأنه من الملائكة، فهم وإن لم يرتكبوا أي ظلم، غير أن كونهم في خارج عالم التكليف الذي يرتبط به عالم الحساب والجزاء، يجعل وجودهم في محلّ هذا المؤذن وجوداً بلا مبرر. ويؤكد هذا المعنى ـ أي أنه من غير الملائكة ـ هو كلامه في يوم أكّد القرآن الكريم أنه لا يتكلم فيه ـ من شدة الهول والفزع: "إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا" (النبأ 38) فلو كان من الملائكة وهم من قائلي الصواب حتماً لما أخرجهم من هذا الاستثناء. وكونه كذلك فهو معصوم حتماً، بدليل براءته من الظلم، مما يفرض له شأنية تتعدى دائرة الجميع أصحاب الجنة وأصحاب النار. ولربما تطرح الآية الكريمة: "وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة 3) تطابقاً في الدور بين هذا المؤذن وذاك، فمن خلال التأمّل البسيط نلحظ أنه يتحدّث عن نفس الموضوع من حيث المحصلة.
https://telegram.me/buratha