الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: مبدئيا لا يمكن التخلي عن حقيقة أن الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم هو أحد هؤلاء الراسخين في هذا العلم والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل أن ما أعطي للرسول صلى الله عليه واله وسلم لم يعط غيره؟. إن افتراض أن هذا العلم أعطي لجهة الهداية بأطرافها الثلاثة الإنذار والتبشير والشهادة، يستدعي القول بأن طبيعة المهمة التي أنيطت بعاتق الرسول صلى الله عليه واله وسلم يفترض أنه لم يكن الوحيد في هذا المجال لأسباب عدة أذكر منها اثنين فقط: الأول: إن الله الكريم في جوده، والوهاب في رحمته حينما ينزل بالعلم على عباده، فمن أجل الرحمة بهم وسوقهم نحو مكامن الهداية، ولكي يتم حجته على عباده، وهذا مقتضى أن يكون صاحب الحجة البالغة "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" (الانعام 149) وأمر كهذا لا يتوقف على حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بل يمتد حتما إلى ما سواه حتى يتحقق المراد الإلهي، وهذا هو مفاد روايات شريفة متعددة كما في صحيحة الفضيل بن يسار حيث روى عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: (إن العلم الذي نزل مع آدم لم يرفع، وما مات عالم فذهب علمه وإن العلم ليتوارث، إن الأرض لا تبقى بغير عالم). الثاني: إن الحياة العملية تثبت أن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم لم يكن متفرغا لإلقاء الصورة الظاهرية لهذا العلم، فضلا عن صورته الحقيقة، ومضامينه التفصيلية، وصيغه التطبيقية بل إن ما عاشه من حروب وأزمات سياسية، وطبيعة العقلية الاجتماعية المهيمنة، والمستوى الروحي الذي كان يتمتع به المجتمع الذي كان يعايشه لم تمكّنه من إبلاغ هذا العلم إلى المسلمين بالطرق العادية، ولم تكن الحالة العقلية للمسلمين بالدرجة التي تسمح للرسول صلى الله عليه واله وسلم بمجرد الاطمئنان لما حصل من تقدم علمي فضلا عن تكاملهم العملي.
قال الله جلت قدرته "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (ال عمران 144)، و "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" (الزمر 30) قال الشيخ جلال الدين الصغير عن هاتين الايتين: إزاء هذه الصورة العجيبة كيف يمكن تصور مصداقية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يترك رسالته لأمة كهذه؟ في وقت كان يصف فيه رسالته بأنها جاءت رحمة لكل العالمين لقوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) ولا يمكن التخلص من ذلك إلا من خلال الركون إلى حقيقة أن البديل لا بد وان يمثل الامتداد الكامل لدور الرسول صلى الله عليه واله وسلم مما يجعل مسالة وجوب أن يكون هناك شريك لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الرسوخ بهذا العلم أمرا لا مندوحة عنه. وبلحاظ أن هذا العلم هو كمال كله، فلا يفترض أن العقل البشري بقادر على الإحاطة بهن، بل يلزمه عقل يستطيع أن ينوء بجميعه أو بما هو أكثر منه، وافتراض أن يكون العقل دون ذلك يفضي إلى أن إبلاغ الحجة الإلهية سيكون ناقصا لنقص علم المبلّغ بها، وهذا ما يتنافى مع مبدأ "الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ" (الانعام 149)، فكيف؟ والحال أن مرمى هذا العلم أن يتوصل به الإنسان إلى عبادة اليقين لقوله تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر 99).
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: ومن خلال ملاحظة أن من وصف بالرسوخ في العلم هنا قد أطلق القرآن علمه بالتأويل، مما يعني أنه لا يخضع لمعايير الفتنة النابعة من القلوب المريضة والزائفة، ولا يخضع لمعايير الجهل التي تبعد بالتأويل عن مرماه الحقيقي، هذا ناهيك عن أن علم هكذا كنهه لا يمكن أن يتخلف العمل بمقتضاه عنه، مما يعني أن هذه الجهة معصومة حتماً. وإن كان الأمر كذلك، فلا بد وان نلقى صدى الامتداد الذي لا يقف عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فحسب في بقية الآيات القرآنية، ولربما تأتي الآية القرآنية الكريمة: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل 43) لتكشف عن هذه الحقيقة بجلاء ووضوح، ففعل الأمر هنا "فَاسْأَلُوا" لا يتعلق بزمان دون غيره بل هو يمتد إلى كل الأزمان، ويخص جميع الأقوام، وهو مبدأ عقلي أيضا. وأياً كانت التفاسير، فلا بد من وجود جهة غير الرسول صلى الله عليه واله وسلم تجمّع لديها كل ذلك الذكر والعلم بحيث أصبحت أهلاً له ومعروفة به. ومن حسن كمال النص القرآني الذي وصف وفق ما تصوره الآية الكريمة: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء 82).
https://telegram.me/buratha