الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الشيخ جلال الدين الصغير في كتابه الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس: ولقد أشرنا فيما سبق أن صورة العهد الإلهي تقتضي أن يكون المعهود إليه بالهداية متمتعا بقدرات استثنائية تتيح له التعامل مع دوائر عمله الثلاث، وهي كما قلنا: الوجود الكوني، والوجود المرتبط بعالم التكليف بشقي عالم التكليف وأعني الإنس والجن، والتشريع باعتباره المنظم للعلاقة بين الوجودين وبينهما مع الله، ولو حللنا حالة هذه العوالم بدقة فسنجد أنها بحاجة إلى خمسة مقامات من الهداية، ومع هذه المقامات يمكننا تلمس وجود ستة أنماط من الإمامة وهذه الأنماط هي: أولا: إمامة التشريع، إذ لا يعقل أن يعهد الله للإمام بعهد هداية الناس وهو لا يمثل المحور الأول في جهة معرفة التشريع من جهتيه، أي من جهة التعرف على حكم الله الواقعي في جميع الأمور، مما يستدعي أن يكون له علما استثنائيا في كل ما يتصل بعملية الهداية، فالإمام الذي يمارس عملية الهداية بالصورة التي حددها القرآن لا بد وأن يكون له علم بقدرها أو بأكثر منها. ومن جهة الموضوعات الخارجية التي يمكن أن يكون لها مساس بأي مفردة من مفردات الهداية، وهاتان الجهتان هما مورد وجود ما نصطلح عليه بـ (علم الإمام). ثانيا: إمامة السياسة، وهي وإن كانت تابعة لما سبقها، إلا إن طبيعتها الخاصة، وتعقيدها الشديد ألجأنا لإفرادها بشكل مستقل. ثالثاً: إمامة الوجدان، فقضايا الحب والبغض والولاء والتبرؤ وأمثالها، بسبب اتصالها الشديد بأهواء النفس ولمقدرتها الشديدة على التفاعل مع البواعث الإرادية، فلا بد لعملية الهداية الإلهية أن تنصب إماما من شأنه أن يكون هو محور إمامة الوجدان والهداية له بحيث يكون هو معيار الحب والبغض والتولي والتبرؤ. رابعاً: الإمامة الشاهدة فطبيعة الحجة الإلهية البالغة تتطلب أن يكون هناك شاهد على العباد من أنفسهم، يشهد لهم فيما عملوه، ويشهد عليهم فيما اقترفوه واجترحوه من أعمال، ويكون هو الشاهد على الخلق بإمكانية تطبيق الشرعة الإلهية، من خلال التزاماته الجادة بكل مقتضيات التكامل والكمال. خامساً: إمامة الوجود، فهذا الوجود الذي سخره الله لعباده بقوله تعالى: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" (لقمان 20). وكذا قوله تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية 13)وعملية التسخير هذه تحتاج ـ كما في طبيعة الحجة القرآنية ـ إلى شاهد عليها من البشر حتى يتعرف على حجمها وما فيها من أسرار، وكما حصل الأمر مع إبراهيم: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) والرؤية وحدها لا تكفي، بل لا بد من أن يكون مؤتمنا عليها وفق ما تصوره آية الأمانة: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72) وهذا ما يستلزم لازمين: أولهما: احتياج الوجود الكوني إلى من يتحمل مسؤوليته أمام الله. وثانيهما: أن يكون هذا المؤتمن معصوما مبتعداً عن الظلم والجهل. وعليه فإن هذا لوجود برمته يتطلب وجود حجة وإمام عليه، مما يجعل وجود الإمام بمثابة العلة لوجوده، والمسبب له، وهذا مفاد الحديث الشريف المتواتر في معناه ولفظه كما في الصحيحة التي يرويها الثمالي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت. ومن الطبيعي أن وجودا كهذا سيكون وجودا ذا قدرة وتحكم في مجمل المجال الكوني.
واستطرد الشيخ الصغير عن انماط الامامة قائلا: سادساً: إمامة الآخرة وهذا النمط مترتب على بقية الأنماط، فحيث رأينا وجود إمامة التشريع والسياسة والحكم وإمامة الوجدان حيث أحكام الحلال والحرام والتي بموجبها يكون الموقف من الجنة والنار وحيث إمامة الوجود والشهادة وما تستدعيه من أداء الأمانة بعد ختم سجلات الدنيا وطي صحفها، كان لا بد من وجود نمط سادس من أنماط الإمامة وهو إمامة الآخرة حيث يكون جزاؤها عقابا أو حسابا مرتبطا بطبيعة الموقف من تلك الأنماط. ومن خلال متابعة وملاحقة آيات القرآن الكريم نجد أن هذه الأنماط قد تم التحدث عنها بشكل مسهب في القرآن الكريم وهو ما سنطلع عليه فيما يأتي من حديث إن شاء الله تعال، ولو شئنا الاختصار في ذلك قلنا: إن ما من فعل تام ذكر في القرآن قد تمّ التحدث عن أفعل التفضيل له بصورة ظاهرة أو مضمرة، وحيث أن أفعل التفضيل هذا له حدان سالب وموجب، بمعنى أن ما من صفة إلا ولزم افتراض وجود صورتها الجمالية الكاملة التي لا شوب فيها، والعكس صحيح أيضا، فالتقوى ـ مثلاً ـ التي تحدث عنها القرآن لأفعل تفضيلها إما أن نراه مضمراً موجبا بعنوان الأتقى، أو ظاهرا سالبا بعنوان الأخسرين كما تحدث عنهم القرآن: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف 103-104) ومثلما افترض وجود أئمة للكفر "فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ" (التوبة 12) فإنه تحدث عن أئمة الإيمان "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ" (الانبياء 73) ولربما نجد أن هذا السبب هو الذي جعل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس يجزم في الحديث المتواتر عنه بأن الله لم ينزل آية: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" إلا وعلي رأسها وقائدها وشريفها وأميرها.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: وكيفما يكن فإن هذا كله يدلنا بوضوح على أن ثمة مقامات تعرض القرآن الكريم للحديث عنها، لا يمكن أن تفي النبوة والرسالة وحدها بمستلزماته، فعلى أقل التقادير لا يمكن مع وجود النبوة الخاتمة أن نجد من يحتل هذه المقامات بعد وفاة أو قتل الرسول (صلى الله عليه وآله) لا أقل في جملة من مهمات الرسالة وتوابعها، فقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الاحزاب 45) مثلا حينما يطرح النبي الشاهد لا بد من أن نتساءل عن سبب الشهادة، وهل هي خاصة بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله دون غيره، هنا سوف لا نجد القرآن يقف مكتوف اليد تجاه مسألة كهذه، بل سنراه يوضح بقوله تعالى: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41) أنها مطلوبة في كل الأزمان، فإن كانت الشهادة ضرورة رسالية في زمن الرسول الأعظم، فما من شك أن هذه الضرورة لا تنتفي بمجرد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، وحيث أن الشهادة عملية عيان وجودي، الأمر الذي يعني إن الحاجة إلى ضرورة وجود امتداد لهذا الأمر تبقى ملحة بنفس إلحاح وجود النبي الشاهد. ولو قلنا بضرورة الشاهد بعد النبي صلى الله عليه وآله والذي تعبر عنه الآية الكريمة: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ" (النساء 41)، فسيحتاج حتما إلى أمور عدة لا غنى عنها فسيحتاج إلى علم خاص يمكنه من الشهادة على كل شيء يتعلق بمهمته الرسالية، وطبيعة الشهادة الرسالية وخصوصية ذلك العلم يعطيه ملكة القدرة على ما يشهد عليه، أضف إلى ذلك أن شهادة كهذه وعلم كهذا يفرض أن يكون صاحبه معصوماً، وهذه الأمور الثلاثة تتطلب ممن يهب العصمة والعلم والشهادة أن ينص على من وهب له هذا الأمر، فتأمل. ولو أخذنا الآية الشريفة: "إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد 7) فهي الأخرى تدلنا على ما نحن بصدده، فالامتداد هنا واضح، ولكن طبيعة الهداية التي تنسجم مع أن تكون حجة الله بالغة بصورة لا تجعل لعباده أي مجال للتذرع، تفترض أن يكون الهادي مشخصا من قبل نفس جهة الهداية ربا كان أو رسولا، بمعنى أن يكون هناك نص عليه، وأن يكون هاديا يقضي بأن يكون مطاعا، من قبل نفس الجهة التي أمرت بطاعة الرسول لإنذاره، وحيث إن الأمر بالطاعة يستلزم أن يكون المطاع مستحقا لها، فلا بد عندئذ من أن يكون معصوما، وهذا ما يجرّنا إلى ما نحن بصدده، وهي استلزام الامتداد في جهة الهداية لما بعد الرسول.
https://telegram.me/buratha