الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: تعترضنا في البداية ملاحظة مهمة أثناء محاولة الخوض في تفاصيل ثبات الإمامة، وهي ملاحظة منهجية لمن أراد اعتماد منهج هذا الرجل، وهي ما نلحظه في إن فضل الله قد أطلق الحديث عن عدم ثبات الإمامة، من دون أن يقيده بشيء، مما يعني أن مسالة الإمامة بمعناها العام هي مورد عدم الثبات في التفكير الإسلامي، لا معناها الخاص لدى الإمامية فحسب، وهذا ما يجعلنا نثير التساؤل حول ما إذا كان هذا الرجل يعتبر القرآن في الأساس مصدرا من مصادر الثبات التشريعي والعقيدي أم لا؟. حيث نلحظ أن الإمامة كمفهوم عام قد تم طرحها في القرآن بشكل واضح لا يتناقض فيه اثنان، كما نلحظ ذلك في قوله تعال: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124). وكذا قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ" (الانبياء 73). وكذا قوله تعالى: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ" (القصص 5). وأيضا قوله تبارك اسمه: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" (السجدة 24). ففي مجموع هذه الآيات نلحظ أن القرآن الكريم لم يكتف بالإشارة إلى المصطلح فحسب، وإنما قام باستعراض بعض مواصفات الإمامة فهي جعل من الله، وهي معصومة، ومن صفات الأئمة المعلنة الصبر واليقين والعبادة المحضة ولم يكتف بهذه فحسب، بل وحدد جملة من المهام للأئمة، فهم يقومون بعملية الهداية الربانية، وهم ممن يوحى إليه فعل الخير وإقام الصلاة، وحينما يقومون بذلك فبتكليف خاص من الله نتيجة لصبرهم يختلف عن بقية التكاليف الموجهة لبقية البشر، وهذه بمجموعها حقائق غير قابلة للجدل والنقاش بين جميع فرق المسلمين، وكانت من الواجب على فضل الله ضمن مبناه الذي تحدث به في مقالة (الأصالة والتجديد) أن يضع الإمامة في خانة الثوابت لا أن يضعها في خانة المتحولات.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: فإذا ما كنا نعتقد أن القرآن الكريم معجزة البلاغة وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لقوله تعالى: "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت 42) وأنه لا يحوي على أي تناقض كما أوضح الله سبحانه بقوله: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء 82) فمن اللازم أن نعتقد أن تعميمات القرآن تفضي إلى خصوصياته، والعكس صحيح أيضا حيث تؤدي خصوصياته إلى عمومياته، وهذه من لوازم عملية الهدى التي أنزل القرآن الكريم كي يكون إطارها الروحي والفكري، وما دام إن القرآن قد طرح شيئا من هذا وشيئا من ذلك، فلا بد وأن نخوض في عبابه كي نستدل على حقيقة الأمر منه. وبعد ذلك فلا يمكننا أن نمر على الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإمامة مرور الكرام، وهنا ستستوقفنا الآية الكريمة: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124) لتطرح عدة من مشخصات خط الإمامة، حيث نلحظ هنا أن مقامها الرباني ارفع من النبوة، فالجعل الإلهي الذي تتحدث عنه الآية لم يتم إلا بعد أن أكمل إبراهيم النبوة المشار إليها بالكلمات في الآية الكريمة. ويمكننا تلمس الفارق الكامن بين الدورين، من خلال ملاحظة الفارق بين قوله تعالى: "بِكَلِمَاتٍ" وبين قوله: "عَهْدِي" فالكلمات هي إبلاغ من الله لأنبيائه ورسله بأوامر محددة وتوجيهات مباشرة منه، أما العهد فهو التكليف بعمل والتوصية به، ومعلوم أن الذي يكلف بعمل ما، لا بد من أن يحرز أن المكلَّف قادر على درء التكليف ولا معنى لتكليف من لا قدرة له على إدارة مناط التكليف، مما يعني أنه يمنح من القدرات والصلاحيات ما تجعله مؤهلا لإدارة مهام التكليف وحيث أن عمله منحصر في الدوائر الثلاث: الوجود الكوني و الوجود المرتبط بعالم التكليف (الإنس والجن) والتشريع بعنوانه المنظم للعلاقة ما بين الدائرتين، وبينهما وبين الله، فلا بد من أن تكون له الولاية والقدرة الكافية في هذه الدوائر كي تمكّنه من إدارة أوامر الهداية الإلهية بحذافيرها.
قال الله تبارك وتعالى "وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (الاعراف 134) قال الشيخ الجلال الدين الصغير وهذا الفهم للعهد تؤكده الآية الكريمةهذه وكذلك قوله سبحانه "وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ" (الزخرف 49) فهذه الآيات في حديثها توجه النظر إلى ما عهد عند موسى عليه السلام بحيث أنه يتمتع بالقدرة الإعجازية على رفع العذاب عنهم. وكيفما يكن من أمر، فلازم الآية الكريمة العديد من الأمور أهمها: أولا: أن يكون الإمام مشخصا من قبل الله جل وعلا، فهو مصدر الجعل في هذا الشأن، ولم يترك ذلك للناس لسبب بسيط أن الإمامة المنظورة هنا هي أكبر من طاقات وقدرات الناس بل حتى الأنبياء والأولياء منهم كما يتضح من قوله تعالى: "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا" (طه 115) وهذا ما يلجؤنا إلى القول بأن لا إ مامة من دون نص إلهي مسبق. ثانياًَ: إن هذا الإمام ينبغي أن يكون معصوما، وهذا ما يدل عليه تحريم الله هذا المقام والعهد للظالمين قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124)، وقد قرّب أحد الأعلام الاستدلال على العصمة من خلال هذه الآية بالقول على ما ينقله العلامة الطباطبائي قدس سره عنه: إن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالماً في جميع عمره، ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخر، ومن هو بالعكس، وهذا وإبراهيم عليه السلام أجلّ شأنا، من أن يسال الإمامة للقسم الأول والرابع من ذريته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الذي يكون ظالماً في أول عمره دون آخر، فبقي الآخر، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره. ثالثاً: إن دور الإمامة يبقى إلى أمد الدهر، إذ ترينا جملة: "لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124) أن هذا العهد يبقى أمد الدهر، لما يلحظ من تقدم فعل المضارعة هنا "يَنَالُ" عليه، والذي يفيد الحال والاستئناف المستقبلي. رابعاً: أن يكون الإمام في كل الأحقاب الزمنية مشخصا فلا معنى للنص على إمامة من دون إمام، ولا دور للإمام من دون أن يلزم الشارع المقدس بالتبعية له، ولا تبعية من دون تشخيص الإمام.
https://telegram.me/buratha