الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: قال الله تبارك وتعالى "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 3-4) هذه واحدة من أمهات بنية الفكر الامامي. ولا يتوقف هذا الأمر عند الجانب السلوكي عند المعصوم عليه السلام فحسب، بل يمتد حتى إلى الجانب الفكري والعقيدي وحيث يطول الحديث هنا فإنني اكتفي بذكر النص التالي الذي يرى فيه أن النبي لم يك يعرف حقيقة العقيدة بربه في واحدة من أبسط مسائلها حيث يقول في قوله تعالى: "قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ" (الاعراف 143) بعد أن يقرر أن موسى (عليه السلام) هنا سال ربه بالمعنى الظاهري للكلام أي أنه طلب وبشكل واقعي أن يرى ربه بنفسه قال: ولكننا لا نستبعد أن يسأل موسى هذا السؤال، فقد لا نستبعد من ناحية التصور والاحتمال أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسى مثل هذا التصور التفصيلي للذات الإلهية، لأن الوحي لم يكن قد تنزّل عليه بذلك، ولم يكن هناك مجال للتأمل والتحليل الفلسفي حول استحالة تجسّد الإله أو إمكانه، لأن ذلك قد لا يكون مطروحاً لدى موسى، ونحن نعرف تماماً معنى التكامل التدريجي للتصور الإيماني في شخصية الرسول الفكرية. فمن الواضح أن الفهم الإسلامي للحجة الإلهية يتسم بالقول بأن هذه الحجة من البساطة والوضوح ما يجعلها متيسرة لفهم الجميع ولو ارتكازاً، بشكل ينسجم تماماً مع مقتضيات أن تكون هذه الحجة هي المعيار الذي سيقاصّ الله سبحانه وتعالى من عباده يوم القيامة، فيهب جنته لمن أحسن التمسك بعروته الوثقى، ويدخل النار من تخلف عن ذلك، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال أن تكون الحجة الإلهية الملقاة على الناس من الوضوح بمكان بحيث تتناسب مع المفهوم القرآني عن العدل الإلهي، فالله جل وعلا لم يخلق الخلق حينما خلقهم ليتركهم سدى هملاً "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة 36) بل أمدّه برعاية وهداية كاملتين بعد أن أمدّه بكل مستلزمات الاستفادة من هذه الرعاية والهداية وأوضح له بما لا مجال للبس فيه مآل موقفه من مواقف الهداية والرعاية "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * ِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * ِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا" (الانسان 2-5) وأوضح أنه لن يظلم أحداً فقال: "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ" (ال عمران 108) وكذا قوله تعالى: "أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ" (ال عمران 195). ونظراً لطبيعة أن الذي لا يظلم عبيده ينبغي أن يوضح أوامره لهم بشكل لا مجال للبس فيه، لذا فإن الله سبحانه وتعالى ولطبيعة رحمته التي وسعت كل شيء لم يكتف بإبلاغ حجته كاملة على عباده فحسب، بل وأرسل رسولا منه ليبلغ هذه الحجة بشيرا ونذيرا، ومن ثم ليكون مصدر رحمة للعالمين، كما وصفه سبحانه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) ولهذا عبّر سبحانه وتعالى عن أن له الحجة البالغة: "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ" (الانعام 149) لكونه سد جميع أبواب الاعتذار أمام عباده لتفادي اعتذارهم يوم القيامة بأي عذر فقال: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الاعراف 172-173) وهذا الأمر من بديهيات العدالة الإلهية.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: نجد النص القرآني يوجد سلّماً في الأولويات لجعله هو الضابطة المعيارية التي تتحكم في تطبيق الأحكام في حال التعارض. ولكن هذه الضابطة إن لم يتم التعرف عليها بدقة، فإنها ستكون مدعاة لحصول واحدة من نتيجتين على الأقل: الأولى: أنها ستكون أداة بيد المتسلّطين على عامة المجتمع بأي شكل من أشكال التسلّط فيستغلونها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السيئة، كما صوّرهم الباري جلّت قدرته في نفس هذه الآية: "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ" (ال عمران 7) أو كما نرى النتيجة في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة 34) في وقت لا يجد المجتمع أي مجال للتخلص من ربقة ظلمهم إلا بالتحرر من النص نفسه، وفي ذلك من المفسدة العظيمة والشر المطلق ما لا يخفى، ومعرفة تداعيات صراع الكنيسة الأوربية مع الآخر إبان القرون الماضية تكشف حجم الأضرار التي يمكن أن يفرزها مثل هذا الواقع، حيث تصور الأوربيون أن صراعهم مع سلطة الكنيسة هو صراع ديني، لذا خاضوا معاركهم ضد الدين مباشرة. الثانية: أن هذا الكتاب الذي أطلق هذه المتشابهات نزل من عند الله، وفيه من الأسرار التي لا يستطيع بالضرورة نليها وإدراكها كل من رام إليها سبيلاً، فدين الله وعلمه قد أتيح لخاصة أوليائه فقط، وليس لعامة الناس، "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا" (فاطر 32) وإلا لما افترض وجود وحي، وجعل المنزل عليه معصوماً لا يزلّ ولا يخطئ، ويتلقى هذا العلم بصورة استثنائية لعلنا نتلمس بعض آفاقها في ما تعكسه لنا مقدمة سورة النجم "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ" (النجم 1-18) ولهذا فإن هذه الأسرار إن تصدّى لحلّها من لا أهلية له في هذا المجال فإن العاقبة الحتمية لعملية ابتغاء التأويل بهذه الصورة ستكون زيغا عن الهدى، وضياعاً عن الطريق لأن لعملية التأويل المطلوبة جهة محددة لم يفسح المجال لغيرها في فك أسرار هذه الكتاب وفق ما تبينه الآية الكريمة: "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ " (ال عمران 7). مثلما رأينا أن الضابطة التي تحكم الثبات والتغيير في التشريع هي النص، فمن البداهة بمكان أن يكون مصدر تشخيص التغير والثبات، ومحل الحسم في خصوصيات التزاحم بينهما هو المؤتمن على هذا النص، لا أي أحد من الناس، ففي وقت حذرنا الله جل وعلا من خطورة التأويل لأنها تكتنف الوقوع في الفتنة، وأوضح لنا أن عملية التأويل هذه في أحسن صورها ستكون زيغاً عن الطريق وإن لم تقترن بفساد النوايا، وضرب لنا مثلا في كيفية انتهاب الكثير من الأحبار والرهبان لمصالح العباد وعبثهم بدين الله، بل أوضح لنا أن حتى من حظي بكرامات الله لم يكن بمنأى من الوقوع في مخاطر أهواء النفس وشهواتها كما في قصة بلعم بن باعوراء "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الاعراف 175).
قال الله سبحانه وتعالى "ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" (البقرة 120) فهل سيعني ذلك أن نتنازل عن قداسة مقدساتنا؟ لمجرد أن هؤلاء يثيرون نقاشا حول ذلك؟ حتى أسفر صباح التقييم البشري يوم أقفلت السماء أبواب وحيها المقدس وهيمن الظلام حينما اغتيلت آمال السماء يوم استشهاد الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم، ليعرب عن إخضاع الأمور لواقعيات التسلط الاجتماعي، فما بدا مقدّسا في نظر السماء والذي عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة 3)، وكرره الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بقوله الشريف المتواتر باتفاق جميع أهل الإسلام: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً. ومن المتأخرين السيد محمد حسين فضل الله حيث يلحظ عليه خروجه بأفكار لم يتجرأ أحد من المسلمين على مجرد التحدث بها، إذ يرى أن الثالوث المسيحي لا يمثل شركاً بالله، رغم أن الجليل الأعلى تباركت أسماءه يتحدث بصراحة عن كفر من يقول بالثالوث: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (المائدة 73)، و "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (التوبة 30). وحيث يعتقد أن الخلافات بيننا وبين الأديان الأخرى هي عقدنا وذاتياتنا[77] رغم أن القرآن الكريم كان واضحاً في قوله: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ" (المائدة 82)، وقد اعتبر أن لا مشكلة بين المسلمين مع المسيحيين في شأن اعتبار المسيح هو تجسيد للإله. ولم ينفع النص القرآني التالي في تراجعه عن قوله هذا : "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" (المائدة 17)
https://telegram.me/buratha