الدكتور فاضل حسن شريف
عن الشيخ جلال الدين الصغير في كتابه الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم: إننا نجد في الظهور القرآني البارز في آية سورة المائدة: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) دلالة ضخمة على أن هذه الولاية قد منحت بالفعل للإنسان الممثل هنا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن سمته بالذين آمنوا بالوصف الذي استعرضته الآية الكريمة، بغض النظر عن مسماه، إذ يكفينا هنا أن يكون إنسانا قد منح صفة الولاية بالطريقة المطلقة التي تحدثت عنها الآية الكريمة. فالولاية المشار إليها هنا في من سنخ ولاية الله تعالى حيث يشير الظهور القرآني هنا إلى أن ما تحدث عنه من الولاية هو ولاية واحدة حيث جعل كلمة "وَلِيُّكُمُ" في قبالة كلمات "اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا" وعطف بولاية الله على الرسول والذين آمنوا، ولو كان غير هذا الأمر ولوجدناه يفصل ما بين الولاية المنسوبة لله، وما بين الأخرى المنسوبة للرسول والذين آمنوا، ويؤكد هذا المفهوم ما أعقبه من كلام مباشرة بعد هذه الآية "وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة 56) والحديث عن الفصل بين الولايتين مجرد تمحل في الكلام لأن الظهور القرآني هنا واضح، ولعدم وجود قيد يخصص هذا الإطلاق.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: مصاديق الدليل القرآني يطفح القرآن الكريم بالكثير من الآيات الشريفة التي تتحدث عن الولاية التكوينية حدوثا وإمكانية، ورغم أن العديد منها قد ورد عبر سرد قصصي لحادثة ما، إلا أنها تعتني بتقديم الدلالة الواضحة على إمكانية أن ينال الإنسان إمكانات فوق إمكانات عالمه المادي هي إمكانات ما نعبر عنه بالولاية التكوينية ضيقا واتساعا، وأول ما يجابهنا في هذه الآيات والقصص أنها تعبر عن حقيقة أن شأن الولاية التكوينية شأن اكتسابي، لا يتعلق بالأنبياء والأوصياء فحسب، بل بكل إنسان يتمكن من اجتياز الاستحقاق الرباني في ذلك والذي تتحدث عنه الآية القرآنية: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا" (فصلت 30) ولذلك نراها تتحدث عن انفتاح الإنسان (غير النبي والإمام) على عوامل الملكوت، فها هي زوجة إبراهيم عليه السلام وهي تخاطب الملائكة، والملائكة هي الأخرى تتحدث معها "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (هود 71-73)
، وها هي أم موسى عليه السلام ينفتح عالم الغيب عليها كما يشير قوله تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص 7)، وكذا قوله تعالى: "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * "أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ" (طه 38-39).
و يستطرد الشيخ الصغير: في قصص السيدة مريم عليها السلام القرآنية الكثير مما يقال على هذا الصعيد، فعالم الملكوت سنجده هنا يقيض لها فرصا ضخمة ويومية للتفاعل مع أفياءه كما يشير إليه قوله تعالى في هذا المجال: "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (ال عمران 37) وكذا قوله تعالى: "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ" (ال عمران 45-46)، وكذا قوله سبحانه وتعالى: "فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا" (مريم 17-21)، وكذا قوله تعالى في حديثه عن عالم بني إسرائيل: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا" (الاعراف 175) وكذا فيما يتعلق بحديثه عن الخضر عليه السلام وهو ليس بنبي كما تشير إليه العديد من الروايات "فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" (الكهف 65). وكذلك ما نجد في حديثه الشريف عن ذي القرنين: "وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" (الكهف 83-84)، وكذا حديثه عن أصحاب الكهف"أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا" (الكهف 9-12) إلى قوله تعالى: "وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16) ۞ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا" (الكهف 16-18) إن هذه القصص والشواهد، كلها تتعلق بأناس ليس لهم خاصية النبوة أو الإمامة.
https://telegram.me/buratha