الدكتور فاضل حسن شريف
قال الشيخ جلال الدين الصغير: الشفاعة لم توضع إلا لأصحاب الذنوب والمعاصي، ولا معنى لوجودها في عالم لا ذنوب فيه، وهذا هو مفاد حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. ومثله قول صادق آل محمد عليه السلام: شفاعتنا لأهل الكبائر من شيعنا، فأما التائبون فإن الله يقول: "مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ" (التوبة 91). وحيث أنها وجدت فقد وضع الله نماذج لهذه الشفاعة بناء على طبيعة مؤهلاتهم الذاتية، ومنح كرما منه وتفضلا أصحاب المؤهلات العالية في هذا المجال كرامة الشفاعة لأصحاب الذنوب فقال في كريم كتابه: "وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" (الانبياء 28) من الواضح إن ذلك لا يستقيم بالمرة، بل إن المستفيض من المئات من روايات أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وجود الشفاعة بحيث أن الشفيع يشفع لمن شاء، وبما شاء.
قال الشيخ جلال الدين الصغير: خاتمة مطاف البحث إلى هنا نكون قد سلطنا الضوء على أن الإمامة لم تكن مقولة طائفية تخص طائفة محددة من دون غيرها، فها هي آيات القرآن تلهج بالحديث عنها ولا تكتفي بالحديث فحسب، بل وتحدد المواصفات المتعلقة بها، ولا تركن عند ذلك فقط، وإنما تعمد للحديث الصريح عن مصاديق الإمامة وسبلها. ومن خلال كل ذلك عرفنا أن الإمامة من الثوابت القرآنية التي لا يمكن التحدث عنها بعنوان التحول كما عمد إلى ذلك محمد حسين فضل الله في مقالته (الأصالة والتجديد)، بعد ما عرفنا شأن الخلاف بين الطوائف الإسلامية لا يبيح لنا الرضوخ لمقتضيات المقولات الطائفية واجتهاداتها، فهذه المقولات كانت ولا تزال تحاكي الإسقاطات السياسية التي أفرزتها معركة السقيفة وما آل إليه الواضع من عدها، بينما تبقى الحقائق القرآنية واضحة السبل وصريحة التعبير لمن لم يضع على عينيه غشاوة الجهل الأعمى وقناع التعصب الحزبي والطائفي، ولم يحرر نفسه من المخلفات والعقد والمسلمات المسبقة سلفا قبل الخوص بحثا عن الحقيقة "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف 108).
قال الله سبحانه "قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ" (الشعراء 71-76)، وكذا قوله تعالى: "قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (الانبياء 66-67) يقول الشيخ جلال الدين الصغير: إن مشكلة الصراع بين التراث والحداثة، أو الأصالة والتجديد، أو الرجعية والتقدمية ضمن الأبعاد الكفرية، لا تشكل صورة الحضارة المعاصرة، بل هي مشكلة مشروع تغييري يريد أن ينهض، وأخر يراد له أن يسقط، دون فرق بين أن يكون هذا المشروع قديما أو حديثا، ولهذا نجد القرآن الكريم ما قبل إتمام المشروع الإلهي يتخذ مرة من المفاهيم الجديدة ونعي المفاهيم القديمة مصدر تشويق للقبول بالمشروع الإلهي، كما نجد في قول عز وجل: "قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِير" (هود 62-63) وأخرى تجد الجماعة الكافرة هي الأخرى تتخذ من الجديد حجة لرفض القديم الإلهي: "وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ" (القلم 10-15). إن المشكلة لا تكمن في الحديث والقديم، وإنما تكمن في عملية البحث عن الحق والحقيقة، وهي الحقيقة التي لا يمكن في فهم القرآن أن تلتمس في بعض الأذهان إلا من خلال العودة إلى الأصول المشتركة في عالم المفكرين، كما يتراءى ذلك لنا في أحد مراحل العودة إلى الأصول المطروحة في قوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ" (ال عمران 64) حيث تطرح الآية هنا المشتركات الثلاثة بين البشر كل البشر فالنشأة من الله، وهو الوحيد المؤهل للتناغم مع الفطرة البشرية في بحثها عن المعبود، والتساوي المطلق بين البشر من حيث معايير السلطة والخضوع.
https://telegram.me/buratha