الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تبارك وتعالى "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (ال عمران 144)، و "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" (الزمر 30) قال الشيخ جلال الدين الصغير مستشهدا بهتين الآيتين المباركتين إزاء هذه الصورة العجيبة كيف يمكن تصور مصداقية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يترك رسالته لأمة كهذه في وقت كان يصف فيه رسالته بأنها جاءت رحمة لكل العالمين لقوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) ولا يمكن التخلص من ذلك إلا من خلال الركون إلى حقيقة أن البديل لا بد وأن يمثل الامتداد الكامل لدور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مما يجعل مسألة وجوب أن يكون هناك شريك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرسوخ بهذا العلم أمرا لا مندوحة عنه. فكيف والحال أن مرمى هذا العلم أن يتوصل به الإنسان إلى عبادة اليقين لقوله تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر 99) فلا بد وأن نلقى صدى الامتداد الذي لا يقف عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحسب في بقية الآيات القرآنية، ولربما تأتي الآية القرآنية الكريمة: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل 43) لتكشف عن هذه الحقيقة بجلاء ووضوح، ففعل الأمر هنا فَاسْأَلُوا لا يتعلق بزمان دون غيره بل هو يمتد إلى كل الأزمان، ويخص جميع الأقوام، وهو مبدأ عقلي أيضا. يذهب فضل الله إلى القول بأن متعلق الآية هم علماء أهل الكتاب.
قال الله جل علاه "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء 82) أشار الشيخ جلال الدين الصغير الى هذه الآية الشريفة وقال إننا لا نعلم فيه إشارة كهذه وهو ما يتمثل بقوله تعالى: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) هذا وقد أجمعت رواية أهل البيت عليهم السلام والكثير من مفسري العامة على أن من عنده علم الكتاب هو علي عليه السلام وما يمثله من بعده من أئمة أهل البيت عليهم السلام. ونفس الأمر نجده في الآية الكريمة "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (الانبياء 7) فأهل الذكر يتطابقون مقاما مع من عنده علم الكتاب، ومع من وصفوا بالراسخين في العلم وفعل الأمر هنا له من الدلالة على الاستمرار المستقبلي. ولا يعقل أن القرآن الذي طرح المشاكل باعتبارها عقبات رئيسية ومحورية أمام مسار حركة الإيمان وتركها من دون أن يضع لها الحل الناجع، لأن ذلك خلاف تكامل مسار الهداية، وخلاف رحمة الإرسال المشخصة بقوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107). إن هذه المسائل بمجموعها والتي تنطوي خطوطها العامة تحت إطار مسألة الحكم والسياسة، تتطلب بطبيعة الحال إمامة خاصة بها لا سيما وإننا قد رأينا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر الكثير من الأوامر المتعلقة في هذا المجال كما في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (التوبة 73) وكما في قوله: "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ" (التوبة 12). وكما في قوله: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة 29)، قوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا" (النساء 75)، وكذا قوله: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج 39-41). وكذا قوله تعالى: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" (النساء 83) وغير ذلك المئات من الآيات القرآنية التي اتصلت بمسائل السياسة و الحكم وشؤونهما. وحيث لا يعقل أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي تحدث كتابه المقدس بكل هذه الأمور وهو لا يخطط لأمور التي ستعقب وجوده الحياتي، لا سيما وأنه قد أخبر بالأوضاع غير الطبيعية التي ستعقب حياته الشريفة: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (ال عمران 144).
قال الشيخ جلال الدين الصغير: ولعل الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" (النساء 59) تفتتح شأن الهداية الربانية في هذا المجال، فعبر هذه الآية نجد أن شأن الطاعة المطروحة هنا إنما هو شأن إمامة كاملة المواصفات بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأن الطاعة التي أوليت هنا لأولي الأمر لا يمكن تفسيرها بشكل منطقي ومتكامل بمعزل عن التنصيب الإلهي لمن وصف بولاية الأمر، حيث لا يمكن تصور أن الله يقرن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة ولاة الأمر من دون أن يكون له عناية خاصة بهذا المقام ضمن نسق حرمة الهداية الربانية. ولهذا نعتقد أن الآية الكريمة: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) تقدم دلالات جوهرية على هذا الصعيد. ومثلما لاحظنا أن الجهة المأمورة في آية الطاعة تتخذ كمالها في صيغة انتمائها إلى حزب الله نلحظ آية الولاية تعطينا نفس الصورة حينما تتحدث عن نفس الجهة "وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة 56). وأن آية: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ" (المائدة 55) تتحدث عن الولاية بشكل مطلق فيما تقيده آية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء 59) في شأن السياسة والحكم ومتعلقاتهما. كان أمير المؤمنين عليه السلام في القصة المعروفة بتصدقه بالخاتم أثناء الصلاة.
https://telegram.me/buratha